كلهم في منأى عن الخطر: انهيار الاقتصاد العالمي له علاقة بسيول غرداية
توفيق رباحي
أعترف بداية بأنني والحساب خطان متوازيان، وبأن بيني وبين الرياضيات والاقتصاد والأرقام عداوة مطلقة الى يوم يبعثون، فعندما يصادفني رقم بالعملة الجزائرية محسوبة بالدينار أحتاج الى وقت مستقطع كي أعيد ترتيبها في ذهني بالسنتيم القديم فأضيف صفرين لأصل الى الرقم الحقيقي. وعندما أذهب الى المغرب أدوخ في حساباتهم بين من يعطيك أرقاما بالدرهم وآخر متمسك بحسابات الريال القديم.
ورغم كل هذا استوقفتني الأسبوع الماضي تصريحات تلفزيونية لمسؤولين عرب في عدد من الدول بينها سورية ومصر والجزائر والسعودية وليبيا والمغرب.
كلهم قالوا ان ما يعيشه العالم من أزمة مالية ومصرفية خطير، لكن كلهم أجمعوا على ان بلدانهم في منأى عن الخطر، لا لسبب إلا بفضل سياساتهم الحكيمة ومخططات قادتهم المعصومين!
في الجزائر هما اثنان وثالثهم… رئيس حكومة لم يقل كلمة صدق منذ 1995: وزير النفط شكيب خليل ثم وزير المالية كريم جودي، وأخيرا رئيس الحكومة أحمد أويحيى الذي قال ان الجزائر لن تتأثر طيلة عشر سنوات (سبقك لها استاذك عبد الحميد الابراهيمي في 1986). كلهم قالوا ان البلاد غير معنية بالأزمة المالية العالمية معلنين أن السبب يكمن في حنكة سياسة وبرنامج صاحب الفخامة.
وتقاطعت تصريحات المسؤولين مع افتخار التلفزيون الحكومي في نشرات أخبار الأسبوع الماضي، بدءا من الاثنين، بكون بورصات نيويورك وباريس ولندن وطوكيو تنهار بينما تصمد بورصة الجزائر.
أكرر القول انني أميّ حسابيا واقتصاديا، لكن رب العالمين عرفوه بالعقل. كيف تنجو الجزائر، مثلا، من أزمة تهز العالم وهي مثل بازار كبير تبيع نفطا للخارج بالدولار الامريكي وتشتري سلعا استهلاكية من الخارج بالدولار الأمريكي وتضع ما يفيض من أموال (بالدولار الأمريكي) ودائع في بنوك أمريكية. كيف تنجو بلاد مرتبطة كل هذا الارتباط باقتصادات الآخرين، تستورد كل شيء، من أقلام الرصاص وملابس النساء الداخلية الى الغذاء والدواء والسلاح وكل ما يخطر على بالكم؟
ربما هي غير معنية مباشرة بالأزمة المصرفية وانهيار البورصات لأنها تعيش خارج الدورة المصرفية العالمية، لكن أن يقال انها نجت بفضل حكمة وبرنامج صاحب الفخامة، فهذا ‘هبال’!
وتزامنا مع التصريحات الجزائرية نقلت تلفزيونات السعودية وليبيا ومصر وسورية والمغرب كلاما مماثلا صدر عن مسؤولين ليبيين، فوزير المالية المغربي ثم جمال مبارك (أدام الله عزه) ومساعد رئيس الوزراء السوري لشؤون الاقتصاد (هذا الأخير لقّن المشاهدين درسا نظريا في الاقتصاد والرأسمالية مع شماتة واضحة في ما يصيب الاقتصاد الغربي).
السعوديون قالوا ان التراجع الحاد في سوق الاسهم ببلادهم لا علاقة له بالاسواق العالمية (ربما له علاقة بسيول غردايةّ!). طيب، لماذا لم تحدث هذه التراجعات قبل الازمة العالمية؟
والآخرون قالوا ‘نحن غير معنيين’ وذلك ‘بفضل برامجنا واصلاحاتنا’. بعبارة أخرى، اصلاحات الجزائر والمغرب وسورية أفيد وأقوى من اصلاحات اليابان وألمانيا وبريطانيا. وهنا أتساءل لماذا يحرمون العالم من عبقريتهم ولا يصدّرون تجاربهم الى الدول الثماني الكبرى تستفيد منها في هذه الظروف الأليمة؟
القاسم المشترك بين هذه التصريحات أنها وردت في محطات تلفزية حكومية مهمتها التطبيل، وعندما لا تجد ‘دربوكة’ ترقص. والقاسم الآخر أنها وردت في برامج وسياقات لم تجرؤ على التشكيك في أقوالهم أو سؤالهم الأسئلة الحقيقة، لأسباب عدة بينها جهل الصحافيين والمذيعين بالاقتصاد والحساب (مثلي).
هؤلاء مسؤولون يستحقون العصا. ولا مرة في حياتهم اعترفوا بأنهم طرف في مشكلة، في كل أزمة يبحثون عن تميز غير موجود رغم أن التأثر بالأزمة المالية الحالية لا يحمّل أحدا من أسيادهم اصحاب السمو والجلالة والفخامة اي مسؤولية، بل قد يشفع لهم كونهم وضعوا اقتصادات بلدانهم جزءا من الاقتصاد العالمي تتأثر به، وهذا شيء يحسب لهم لا عليهم.
على العموم، الأيام بيننا وإن غداً لناظره قريب.
ثقافة البورصة
أعتقد ان قناة ‘العربية’ تتحمل المسؤولية المعنوية والأخلاقية في الإفلاس الذي سيصيب بعض الأفراد والعائلات الخليجية جراء الأزمة المصرفية العالمية.
فهذه القناة هي التي أدخلت الى البيوت الخليجية ثقافة البورصات والأسهم والصعود والنزول، وفتحت عيون أصحاب المدخرات على نوع جديد من المضاربة يشبه القمار (الحلال) دون أن تلقنهم دروسا عن احتمالات ومخاطر الخسارة التي تتراوح درجات، أسوأها خسارة كل شيء.
واليوم وقعت الفأس في الرأس أو أوشكت. وعندما خربت مالطا تختار ‘العربية’ أن تبدأ نشراتها بالانتخابات الأمريكية ومشاكل سارة بايلن.
أذكر أنني زرت الدوحة قبل أزيد من سنتين فوقفت على آثار ما قيل لي هناك انه زحف بشري هائل من دول الخليج المجاورة لقطر لشراء أسهم مطروحة. قيل لي يومها ان الوافدين شلّوا المدينة وناموا في شوارعها وداخل سياراتهم بعد أن ضاقت الفنادق.
كيف يحدث هذا التطور الهائل في عقلية أناس بدو في الأصل لولا الميديا وعلى رأسها ‘العربية’ التي تخصص من برامجها ساعات للتداول وأخبار المضاربات والهبوط والصعود والإغلاق.
السنة الماضية توجهت الى بنك لندني معروف لبحث فتح حساب لولي عهدي الأمين ووارث ثرواتي بعد عمر طويل ان شاء الله. استقبلتني سيدة انكليزية في منتصف العمر فائقة الجمال قالت انها مستشارة مالية مهمتها توجيهي حفاظا على مصالحي. قلت أخطأوا، كان يجب ان يستغلوك في شيء آخر!
من حديث لحديث انتهينا الى نقاش حول الادخار في البورصة، فسعت لاقناعي بالمحاولة، لكنها يئست. قلت: يا سيدتي، أنا قادم من منطقة لا ثقة لأهلها بالمؤسسات، ووالدتي أوصتني دائما بالوثوق في فطرتي وحدسي. لذا أكرر القول ان البورصة وهذا الكلام وهذا آخرته، عاجلا أم آجلا، خراب بيت انسان مثلي.
سألت كيف، فقلت: لا ثقة لي في اسواق مال واسعار نفط تتأثر بزكام يمر قرب أحد قصور الملك عبد الله بن عبد العزيز، أو عطسة من هوغو تشافيز هناك في آخر الدنيا، أو كلمة قالها أحمدي نجاد ليكيد اليهود.
يبدو ان كلامي أعجبها فقالت: اشرح لي أكثر. قلت:
‘انها الفطرة، الحدس، يا مدام. وبعد ذلك أنا صحافي وأنت موظفة بنك، فخذيها مني: طالما ما يزال في العالم أشياء اسمها الشرق الأوسط، اسرائيل، إيران، جورج بوش، أسامة بن لادن.. فلا ثقة لي في أحد أو شيء لأن العالم مقبل على كوارث لا آخر لها’.
ضحكت السيدة من أعماقها وافترقنا بعد أن شعرت بأنها أضاعت وقتا ثمينا معي. واليوم أستطيع أن أجزم بأن ثقتي في فطرتي أفادتني، فأنا أنام مطمئنا لأنني لم استجب لاغراءاتها رغم انه لم يكن لدي شيء أخسره بالأساس.
ال الأمام!
هنيئا لشعوبنا في تلك المنطقة البائسة الحرب الجديدة بين الطوائف والتي امتدت الى القنوات التلفزية ومواقع النت فكان من ثمراتها المباركة الهجوم على موقع تلفزيون ‘العربية’ على الانترنت.
مبروك هذه الخطوة الجبّارة، والى الأمام.. الى حروب داخل المذهب الواحد، السنّة في ما بينهم والشيعة في ما بينهم والدروز وكل الأقليات، ثم داخل الداخل مثل انقسام الذرة، حتى نشعلها نارا تأتي على كل شيء ونرتاح لإننا شعوب لا تستحق الحياة.
كاتب من أسرة ‘القدس العربي