هل الشيطان وراء الأزمة المالية؟!
بدر عبدالملك
لأسابيع قليلة مضت كان المهتمون بالأزمة المالية الأميركية وانعكاساتها المتوقعة على النظام المالي العالمي هم النخب الضالعون في مكعباتها ومسدساتها وجزيئاتها الرياضية ونظرياتها التخمينية والاحتمالية، فهم وحدهم من كانوا معنيين بمتابعة المؤشرات المرتفعة والهابطة كضربات القلب عند تزايده أو انخفاضه.
هؤلاء النخب ومنهم التكنوقراط وتحديدا العاملين في مجال المال وبيوت التموين والاستثمار في المجال العقاري وبنوكها العمياء، هم من أكثرهم متابعة لوجع ورقص شارع الوول ستريت، فمن هناك يولد بيت الشيطان وتفرخ أولاده بيضا ملونا بالعملات والأسهم والأحلام.
كانوا حتى وقت قصير وحدهم المختصين الذين يعرفون إلى أين يتجه القارب الغارق في مجونه وجنونه، فليس هناك إلا حضن الجحيم وأجنحة الشيطان، فوحده كان يحلق دون رقيب ويدخل الأمكنة دون رقيب ويفعل ما يشاء دون رقيب (غياب نظام الرقابة المالية) بل ويقرض ويقترض كيفما يشاء دون رقيب، المهم انه الوحيد من يسلب الفقراء جيوبهم.
وكلما زادت معاناة الناس بالإفلاس والمصائب زاد جشعه بحثا عن رفاهية الامتيازات المنتظرة كونه بات زبدة الزبدة المدللة في مجالس إدارية لتلك البنوك العقارية، التي أثرت ثراء فاحشا من تلك اللعبة إلى إن أغرقت نفسها ومن حولها كما يفعل الشيطان عند اصطياده، فيخرج لك لسانه لماذا قبلت الوقوع في الفخ، يا لتعاسة المحرومين الباحثين عن بيت في الأرض وبيت في الفردوس، وقد نسوا ان الشيطان لا يمنح الناس إلا صكوكا مزيفة.
وبدلا من وضع تلك النخبة المدللة التي أدخلت العالم في لعبة المغامرة إلى حد الانتحار، نرى أصدقاء الشيطان يدافعون عنهم، بل ويصرون على مكافأتهم بدلا من محاسبتهم ووضعهم خلف أسياخ السجن. لهذا صارت الصور الإعلامية كابوسا إضافيا لمن سقط في الأزمة وصار جزءا منها، بل وتحولت الماكينة الإعلامية إلى رعب إضافي للناس.
حيث بات كل فرد بسيط في حالة من الذعر والتساؤل حول كل شيء مصرفي، ويسأل عن كل تلك المعادلات الصعبة والأسماء الجديدة التي غابت عن ذهنه لوقت طويل. فهل بالإمكان إقناع مواطن مبهور بالقوة العظمى وبلد الفرص والثراء بأن تصاب بهذه المحنة والتي تكاد تكون «إعصار الأعاصير» بل «ويوم الحشر العظيم» في الاقتصاد الأميركي؟
فقد بات يقرأ المواطن الغلبان صاحب حساب التوفير براتبه الشهري إن كان ذلك سيؤثر على دخله الشهري؟ وماذا عن الودائع ومهر الولد في البنك، فقد احتفظنا به حتى إعلان وقت الزفاف؟ هل ستصبح البنوك خاوية صناديقها عندما يقولون لنا إن البنوك أفلست! يا للهول لهذا الدكان الزجاجي، فقد قالوا لنا إن البنوك لا تفلس!!
لقد بتنا حقا في حالة فزع يومي وكابوس في المنام، فحال المنكوبين من الفقراء وذوي الدخل المحدود لا يقل كابوسية عن دخل الطبقة الوسطى، التي شعرت بريشها ينفش وينكمش كالأزمة، عندما صعدت سلم المجد المالي، ولكنها اليوم تشعر بمقولة اقتصادية حقيقية اسمها الانكماش والركود، الكساد، بل والإفلاس وضغط الدم. لقد ألغت الزوجة حفلتها المعتادة في الشيراتون السنوية لأعياد ميلاد الأولاد، فقد صار البيت كله متوترا.
بهذه التصريحات نتابع القصص الخلفية للازمة وشيطانها في الصحافة الغربية، إذ ما يهم هو معرفة الانعكاسات الاجتماعية والصحية والأخلاقية والسلوكية على شرائح كثيرة في مجتمع الرفاهية.
بل وسيتعلم الناس إعادة قراءة القاموس السياسي في عالم الرأسمالية والنيوليبرالية، التي أزاحت عن وجهها الجشع وأفرزت شرائح من الجماعات المصرفية والمالية همها التلاعب وسرقة دخل الناس العاديين وإعادة بيعهم لهم مرة تلو أخرى.
تعلم الناس اليوم ماذا يعني فقدان الثقة بالنظام المالي الحالي، والذي فتح نافذة جديدة للتوقف برهة نحو قضية اختلال توزيع الثروة بين الناس في المجتمع الواحد وبين البلدان والمجتمع الدولي.
كنت بالفعل مشغولا طوال الأسبوع الأخير اقرأ تحليلات ودراسات ومقابلات، وأتابع مفردات كادت بحد ذاتها ترعب الناس كلما تم استخدامها، وكأنها تصب الزيت على النار. لقد كانت تحدث في العقود السابقة هزات اقتصادية كبرى، ولكن بسبب العزلة الإعلامية ومحدودية انخراط الناس والشرائح في عالم المال المحصور سابقا بفئات محددة ظلت ضيقة التأثير، فيما نجدها الأزمة اليوم تلاحقنا بتلفاز غرف النوم، ليقولوا لنا ماذا عن ودائعك بالدولار؟
لماذا لا تسأل عن الأسهم المتواضعة التي اشتريتها؟ وكلما وددت نسيان الكارثة «الصغيرة» هزتك زوجتك من خصرك لماذا لا تتحرك وتسأل عن الوضع، حتى وان كانت الزوجة لا يهمها فهم المعادلات الحسابية، وكل ما يهمها اليوم هو أن لا يهبط الدخل السنوي إلى حد تغيير وجهات السفر من باريس ولندن إلى المجمعات التجارية في دبي!!
لقد صار للشيطان أجنحة متعددة وبعد قهقهته الكبرى نفض أجنحته واختفى، وهذا ما سأل عنه بعض البسطاء المتخصصين في الاقتصاد، إذا كان هذا العالم كله خاسر فمن يا ترى الرابح هنا؟ أم فعلا الأموال قابلة لئن تتبخر كما نسمع؟
من يستحق أن احسده هذه الأيام هو ابن جارنا «أحمد رنكه» فهو ليس معنيا بكل هذا العالم، بل وحتى ليس معنيا بصرف أموال غير مجدية، طالما أنها ليست مفيدة فعلا، فقد عاش سنوات طويلة بلا جواز، وعندما صدر مرسوم بمنحه لم يذهب لاستخراجه كونه عاطلا عن العمل لسنوات ويعيش بطريقة بوهيمية من صيد البحر،.
ويكتفي بملابس متواضعة طوال العام، فأتحفنا بإجابته «لماذا استخرج جواز سفر طالما انني لا أسافر!! قيمة استخراج الجواز أهم!. هناك عالم مزدحم بمثل هذه الشخصية في كوكبنا، فليس لدى الفقراء والمشردين والجياع وسجناء العالم وغيرهم ما يخسرونه.
الشيطان وحده كان الرابح الأكبر ويفهم اللعبة، ولكن ليس على طريقة تصريحات وفهم الرئيس الإيراني احمدي نجاد حول الأزمة المالية!. هذا الشيطان وصفه مكسيم غوركي عندما زار نيويورك عام 1912 فسماه بلد «الشيطان الأصفر» فقد كانت المدينة تلهث وراء الجشع ورنين الذهب، فيما هناك بشر تحت الأرض تكدح بشقاء.
البيان