قائد مُلهَم
محمد ابرهيم
تتفق التحليلات الاولى لأزمة أسواق المال العالمية على أنها حصيلة سياسات المال “الرخيص” الذي دأبت ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش على تأمينه للأسواق طوال ولايتيه.
لقد كان هذا المال واسطة تغطية لكل الازمات التي مرّ بها الاقتصاد الاميركي والتي كانت مؤشرات لخلل في الادارة الاقتصادية “الجمهورية” منذ مطلع هذا العقد.
عجرفة النصر الذي حققته الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي السابق، حوّلت الليبرالية الى ايقونة لا يمكن نقاشها، وقابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.
أضيفت الى هذه العجرفة الكلمة السحرية الخاصة بـ”العولمة” والتي بدا انها تزدري كل المؤسسات السابقة السياسية منها والاقتصادية، فأعلن عشرات المرات موت الدول والحدود وولادة الكائن الهلامي الذي يستمد قوته من “لاوجوده” في مكان محدد.
هذه العجرفة “الاقتصادية” كان الاساس الذي غذّى العجرفة العسكرية التي انشغل بها العالم منذ مجيء بوش الى الرئاسة الاميركية.
كان جوهر ايديولوجيا المحافظين الجدد انه يحق للولايات المتحدة ان تبادر الى اعادة صوغ العالم ماديا بعدما اعيدت صياغته ايديولوجيا.
في البداية ظهرت حدود القوة العسكرية، ليس لأن الولايات المتحدة وجدت خصما يضاهيها قوة، بل لأنها لم تجد مثل هذا الخصم، بالمواصفات التي تصورتها.
وفي الفترة الفاصلة عن استعادة مراكز القوة الثانية في العالم بعض نفوذها خاضت الولايات المتحدة حربا ضد قوة تشبه عولمتها.
قوة غير منظورة، تستند الى امكانات متخلفة لكنها فاعلة في كشف نقاط ضعف نظرية السيطرة العسكرية المباشرة على “مفاصل العالم”.
كان من المتوقع ان تنتهي ولاية بوش الثانية عند الدرس الاكبر الذي يقول ان عالم القوة العظمى الوحيدة ليس معناه “عالم الفراغ”، وان على الولايات المتحدة ان تعيد استكشاف عالم ما بعد الحرب الباردة. علما ان العقد المباشر للانهيار السوفياتي والذي شهد القسم الاخير من ولاية جورج بوش الاب وولاية بيل كلينتون، كان عقد “تواضع” القوة العظمى الوحيدة، التي لجأت دائما الى الشرعية الدولية والى المقاربات “المتعددة الطرف” اي احترام الحلفاء والخصوم السابقين.
كان من المنتظر إذاً ان يكون الميدان الخارجي هو مجال اعادة النظر بالنسبة الى اميركا وموقعها في العالم.
لكن شاء سوء طالع بوش الابن ان يشهد بنفسه، وقبل انتهاء ولايته ببضعة اشهر، انفجار “فقاعة” الليبرالية الاقتصادية التي دفعها الى حدها الاقصى.
لم يكن بوش مكابرا وهو يعلن اجراءاته الاقتصادية التي تعرضت لمساومات مذلة في الكونغرس، فأقر بأنها نقيض النموذج الذي كان مبشّره الاول.
وما زاد من تواضع بوش ان الاجراءات التي اقرها الكونغرس (700 مليار دولار لدعم الاسواق المالية) لم تؤتِ ثمارها وشهدت اسواق الاسهم اقسى انهياراتها بعد إقرارها.
الحل السحري الذي انقذ الاسواق وأعاد الضحكة الى وجوه “المتعاملين” كان بريطانياً، تبنته اوروبا. هذا الحل اكتسب على الفور لقباً، انه النموذج البريطاني، وكأننا نتكلم عن عودة الليبرالية الى مهدها الاصيل بعد “قرون” من الطيش الاميركي.
اما ماهية النموذج البريطاني فهي تأميم جزئي او كلي للمصارف، وضمان كامل للودائع المصرفية. كيف يكون هذا نموذجا بريطانيا وكيف يمكن نسبته الى اي تاريخ بريطاني اقتصادي معروف؟ ولماذا لا تطلق عليه اسماء اقرب الى الواقع: النموذج السوفياتي مثلا.
بعد عقدين على ولادة النظام العالمي الجديد يكاد يعيد جورج بوش الولايات المتحدة الى النقطة الصفر: افلاس عسكري وافلاس اقتصادي.
وبعد الثرثرة غير المتناهية عن العولمة خلال الفترة نفسها، اذا برؤساء الدول يصبحون الابطال الاول للاسواق، التي كان عملها بدون تدخل أحد مفخرة النموذج، غير البريطاني طبعاً.
الدولة انتقمت من العولمة، والعالم ذكّر القوة العظمى الوحيدة ببديهة انه اكبر منها. في انتظار ان لا يخطئ الناخب الاميركي للمرة الثالثة فيأت بمن يحدّ من الخسائر غير الضرورية التي تكبدتها الولايات المتحدة في ظل قائدها الملهم.
النهار