درس الرأسمالية المتوحشة للهواة الجدد!
صلاح الدين حافظ
لو أن واحداً من الفقراء أو العلماء، خرج علينا قبل شهرين أو ثلاثة، يعلن ضرورة العودة واللجوء للتأميم، في مواجهة الأزمة الكارثة الاقتصادية العالمية، لهاجت الدنيا ووصفه الجميع بالجنون عند الحد الأقصى، أو اتهموه بالشيوعية والاشتراكية عند الحد الأدنى… أليس التأميم من ممارسات هذه وتلك!!
لكن في ظل الكارثة المالية الاقتصادية الراهنة، التي ضربت أسس الاقتصاد في أكبر الدول الرأسمالية، من الولايات المتحدة الأميركية إلى الاتحاد الأوروبي أصحاب نصف الاقتصاد العالمي، لجأت هذه الدول الرأسمالية العريقة إلى التأميم … تأميم عديد من البنوك والمصارف والمؤسسات المالية الكبرى، ولم يكن ذلك التأميم جنوحاً رأسمالياً نحو الشيوعية كما يتصور البعض، لكنه جاء علاجاً لأزمة، كان هو الاختيار الأنسب لمواجهتها من وجهة نظر المسؤولين ..
والمغزى أن التأميم بقدر ما هو إجراء مكروه في الغرب الرأسمالي، وفي بلادنا أيضا، بقدر ما هو قد أصبح علاجاً فورياً لأزمة عالمية، أصابت قلب الاقتصاد العالمي بجلطة شبه قاتلة، خصوصا إذا ما دخل هذا الاقتصاد في ركود شديد وطويل، بحيث يشبه حالة الغيبوبة العميقة.
وقد لاحظنا أن ردود الأفعال الأولية في بلادنا العربية عموما، على هذه الأزمة، جاءت ملتبسة ومتناقضة، وتراوحت ما بين التهوين والتهويل، فقد سمعنا تصريحات لمسؤولين كبار يدعون أن الأزمة التي هزت العالم كله لن تؤثر فينا، فاقتصادنا قوي وبعيد عن الآثار السلبية لهذه الأزمة، وهو كلام مضحك، إن لم نصفه بأوصاف أخرى يعاقب عليها القانون، لأن بلادنا سواء كانت فقيرة ضعيفة الموارد والمصادر، أو كانت نفطية، ستكون من أكثر بلاد العالم تأثراً ، لأن اقتصادها على صغره و هامشيته، هو جزء من ذاك الاقتصاد الرأسمالي الغربي والدولي، الذي هزته الكارثة، بل هو الأضعف!
وبالمقابل سمعنا تهليلا ساذجاً من جانب آخرين وبينهم كتاب ومثقفون، يطلقون الأفراح، ابتهاجاً بهزيمة الرأسمالية الغربية في عقر دارها، وعجزها عن مواجهة انهياراتها المدوية، ومن ثم لجوئها لاستعارة النموذج الاشتراكي بتأميم البنوك والمصارف والهيئات المالية، ووضعها تحت سيطرة الدولة مباشرة، وإطلاق يد الدولة في التدخل في حركة الاقتصاد والسوق والتجارة تناقضاً مع المبادئ الليبرالية والرأسمالية المستقرة.
وما بين التهوين والتهويل يجدر بنا أن نفكر بعقلانية ونعمل بواقعية، بحثاً عن أساليب جديدة وأفكار مختلفة، للتخفيف من تأثيرات الأزمة العالمية هذه على أوضاعنا بشكل عام، وعلى اقتصادنا بشكل خاص، فليس صحيحاً أننا بعيدون عنها وعن إعصارها المدمر، ولكن الصحيح والواضح أننا جميعا في قلب الأزمة، سواء كنا فقراء أو أغنياء، لأن كل اقتصادنا وحركتنا المالية والتجارية مرتبطة باقتصاد الأزمة في الغرب الرأسمالي.
[[[
وخذ على سبيل المثال أولا نموذج الدول العربية النفطية، التي يعتمد اقتصادها على استخراج وبيع النفط، وكلها مرتبطة بالضرورة بالاقتصاد الغربي صاحب خبرة استخراج النفط ونقله وتسويقه وبيعه في الأسواق المفتوحة، من اليابان شرقا إلى أوروبا وأميركا غربا..
لقد راكمت هذه الدول أموالا هائلا من مداخيل النفط، لم تستهلكها كلها في التنمية والتحديث وإصلاح الأوضاع الاجتماعية لشعوبها، ولكنها عمدت إلى استثمار جزء كبير من مداخيل النفط في الأسواق الأوروبية والأميركية، وأنشأت صناديق سيادية خاصة أودعت فيها مئات المليارات من الدولارات، ودخلت في مشروعات عملاقة واشترت أذون الخزانة الأميركية وأودعت أرصدتها »الحكومية والشخصية والأهلية« في بنوك الغرب، ويقدر خبراء اقتصاديون أن مجمل هذه الأموال النفطية المستثمرة في الغرب يقدر بثلاثة تريليونات دولار على الأقل، أصبحت الآن رهينة بل ربما ضحية للأزمة المالية الجارية، إن لم تستنزف كلها فجزء كبير منها حتما سيضيع هباء، مما يشكل ضربة موجعة لاقتصاديات هذه الدول!
النموذج الثاني، بعد الدول النفطية، هو نموذج مصر ذات الإمكانات المحدودة، والقدرات الاقتصادية القليلة المستنزفة بزيادة عدد السكان، وبالفساد والتهريب وبإساءة توزيع الثروة، ثم وهبها الله فوق ذلك، بعض أصحاب القرار الهواة، ممن فهموا الرأسمالية بطريقة قاصرة، ولم يتنبهوا إلى أن الرأسمالية تجدد نفسها باستمرار.
على مدى السنوات الثلاث الماضية، أخذت الحكومة المصرية على نفسها عهداً بأن تنتهي سريعا من برنامج ما يسمى الإصلاح الاقتصادي، وأن تبيع كل شيء بما في ذلك البنوك وأصول الدولة وأراضيها ومصانعها ومؤسساتها، وهى في طريقها لخصخصة السكك الحديدية والطرق والمرافق العامة، وربما التمهيد لخصخصة قناة السويس والنيل والمجاري المائية، إيمانا منها بضرورة تفكيك سلطة الدولة وهيمنتها على مصادر الإنتاج وعلى مجمل الاقتصاد، وترك كل شيء للقطاع الخاص، تحت نظرية حرية السوق والاقتصاد الحر، وكأنها لا زالت متوقفة متجمدة عند مبدأ »آدم سميث« فيلسوف الاقتصاد الرأسمالي، قبل ثلاثة قرون، الذي قال دعه يعمل دعه يمر، أي كل واحد يفعل ما يريد بحرية، بعيداً عن أي سلطة للدولة!
لقد سيطرت فكرة تخلي الدولة عن مسؤولياتها، على عقول وأفكار هؤلاء الهواة، الذين رأوا في المجتمعات الأوروبية والأميركية نموذجا فذا للنجاح والتقدم، مؤمنين بطريقة عشوائية، بما قال المفكر الاميركي »الياباني الأصل« فرانسيس فوكايايما، بنهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية إلى الأبد.
وأشك أن الهواة بحكم استسهال خطف الأفكار السابحة في الفضاء، لم يعرفوا أن فوكاياما قد راجع أفكاره، وتراجع كثيرا على مدى السنوات الخمس الأخيرة عن بعض مواقفه، اتساقا مع حركة التطور والتاريخ وأحداثه، وبالتالي لم يدركوا أن الاندفاع المفاجئ والخطوات المتسرعة، في نقل مجتمع قديم مثل المجتمع المصري، من أوضاعه شبه المستقرة على مدى عقود، إلى مجتمع يأكل فيه القوي والغني الفقير والصغير، بلا تدخل من دولة او حكومة تحمي وترعى وتضبط ميزان توزيع الثروة وحركة التنافس ـ الصراع بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، إنما هو انتحار، بل هو نحر غير شرعي للمجتمع كله، ولنا أن نتأمل الآثار السلبية الهائلة على الطبقات الاجتماعية المختلفة جراء هذه السياسات، التي جاءت في وقت وقعت فيه الرأسمالية المتوحشة في واحدة من أخطر أزمات التاريخ!
[[[
وأظن أن الهواة الجدد يعرفون أن مصر تعتمد على خمسة مصادر رئيسية في اقتصادها، هي قناة السويس والبترول وتحويلات المصريين العاملين في الخارج والتصدير الذي يتضاءل أمام شهوة الاستيراد المفتوح، والسياحة المتذبذبة بحكم متغيرات السياسة والأمن … وكلها مصادر عرضة للتأثر السريع بحركة الاقتصاد العالمي، وبالتالي فإن الأزمة المالية العالمية تصيبها مباشرة وربما بآثار قاسية ستكشف عنها الأيام القادمة.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن الأزمة العالمية ستؤدى بالضرورة إلى كساد وجمود، يؤثر على حركة الاستثمار العالمي، لعرفنا أن الاستثمارات الأجنبية في مصر، وكم هي محدودة، ستتناقص، وكذلك فإن المساعدات والمعونات التي تتلقاها مصر من أميركا ودول الاتحاد الاوروبي ستنكمش وربما تتوقف نهائيا، وهو أمر خطير يستدعي اهتماما أعمق من جانب الدولة والحكومة، والبحث عن سبل تخفيف وطأة الأزمة العالمية على البلد عموما وعلى الفقراء خصوصا، بدلا من استسهال اللجوء إلى التهوين والتعمية وإنكار الحقائق، ثم إطلاق التصريحات الوردية التي لا تقنع أحداً على الإطلاق إلا السذج!!
نختتم بأن نذكر أن الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى عام ،١٩٢٩ ظلت تراكم آثارها المدمرة على الاقتصاد العالمي، حتى وصلت بالعالم إلى إشعال الحرب العالمية الثانية بكل عنفوانها التدميري وضحاياها الستين مليونا، لكي تضخ ماء الحياة وحركة الازدهار في الصناعات العسكرية التي كانت تعاني آنذاك من الكساد، وخصوصا في الولايات المتحدة الأميركية صاحبة اكبر وأقوى صناعات عسكرية في تاريخ البشرية!
فهل ستؤدي الأزمة المالية الراهنة وكساد الاقتصاد العالمي المتوقع، إلى إشعال الحرب العالمية الثالثة، التي نرى مقدماتها جارية في أفغانستان والعراق والصومال، حتى تزدهر الصناعات العسكرية مرة جديدة!
مجرد سؤال يحمل من الشك أكثر مما يعني التساؤل فقط …
[[[
¯ خير الكلام:
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا
([) كاتب مصري
الخليج