نهايــة الفوضــى الأميركيــة؟
خليل أحمد خليل
»ومع ذلك لا نقعد إلا على مؤخرتنا فوق أرفع عرش في العالم« (مونتاني، تجارب، III، ٨٠٠).
﴿ تكمن مأساة الرأسمالية العالمية في أمرين: رفض المساواة بالفقراء والعيش معهم بسلام، والاستغراق في الملك والملكية بصفتهما أدوات للسرقة وللحروب. وتكمن نهاية تاريخها ـ بكل اسمائها المتداولة والسرية: رأسمالية استعمارية، قديمة جديدة، وليبرالية، نيوليبرالية، عولمة أو فوضى اقتصادية جديدة، الخ ـ في وحشيتها المميتة، التي جعلت المركز يبتر أطرافه، ثم جرته الى أكل نفسه بنفسه. فمن عالم بلا آلهة، انتقلت الفوضى الأميركية الى عالم بلا آخرين حقيقيين، كما فعلت دائما منذ ،١٤٩٢ وكما جعلت الصهيونية تفعل في فلسطين منذ ١٩١٨ وحتى اليوم بلا هوادة، لولا مقاومات واستراحات. وصار على الولايات المتحدة الاميركية وتوابعها ـ بعد توهم إزاحة الطبقات والدول عن ساحات الصراع ـ ان تختار بين الدولة والشركة، بين السياسة والمضاربة او النَّصب.
في عالم المركز الرأسمالي كانت الشركات تغير على أطراف العالم عبر الأسواق والحروب، وبعد عولمة جشعها صارت دويلات في دولة الأمم، ثم راحت تُفبرك بالاعلام والتسليف المالي جمهورا لسلطتها، حتى استوت على عروش معظم الدول الرأسمالية، وأحلت صراع الشركات محل صراع الطبقات ـ الذي صار جمهور مستهلكين عالميا ومودعين محليا. وبما أن الرأسمالية هي مركز الارهاب في العالم اخترعت لنفسها، بعد تحولات الاتحاد السوفياتي، إرهابا مضادا لها، مع أنه من صُلبها، كما أثبت ذلك سمير أمين في معظم أعماله ورأى ان ما يحدث في الأطراف هو انعكاس لما يحدث في المركز، وأن على سكان الأطراف غير النفطيين، مثلا، ان يبتعدوا عن الفوضى الأميركية وأن يمارسوا استقلالهم بدءا من زراعة أرضهم وصنع حاجاتهم الضرورية. ولكن، كما رآهم هوشي مينه في حرب فيتنام، كانوا لصوصا مقنّعين، وقتلة محترفين، ولسان حالهم يقول: »… إقبضوا على اللص«! ويمكننا الآن بتحوير طفيف ان نقول: »يقول الارهابي الأكبر إقبضوا على الارهابي الأصغر«. والحال، حين تقبض على الدولة، لا تجد أحدا يقبض على لص ولا على ارهابي، ولا حتى على نملة مسحوقة.
في عالم الأطراف المبتورة عن هوياتها القومية ودولها الوطنية، ظهر مرض التخصيص بديلا من تأميم، وحلّت شركات المركز ولواحقها مكان دولة المجتمع ـ طبعا بعد انجاز الطلاق بين الدولة ومجتمعها كما في حال لبنان، او احتلال المجتمع لمنع قيام دولة وطنية كما في حال فلسطين، او لإزالة دولة وطنية كما في الصومال والعراق وأفغانستان ـ ثم أُقيمت في الأطراف دول شركات تابعة لشركات دولية، تطمع في حكم العالم وحدها. وكما في »حكاية مومو«، عمدت الشركات المالية والعقارية الى سحب الأوكسجين او المال من أسواق العالم المفقر، فامتلأت مصارف الشركات ودولها بثروات ميتة، ومميتة حالت دون خروج الناس من بيوتهم. وحين عمّت البطالات والافقارات والمجاعات والتلوثات عالم »نهاية التاريخ«، توهموا في الغرب وبعض أطرافه المبتورة ان المال سيحرك تاريخا جديدا، بمعزل عن الناس الذين مات عنهم تاريخهم الحيوي، لمجرد أنهم سُلبوا أموالهم وأرزاقهم. والحق ان فوكوياما مُصيب في رؤيته، لكن بالمقلوب: نهاية تاريخ الفوضى هي الآن وغدا على المحك. لماذا؟
لأن ما يحدث الآن في الولايات المتحدة الأميركية وفي معسكرها الرأسمالي العالمي يفوق بصدمته كل الاختلالات الثقافية والحضارية التي وُسمت خطأ وتضليلا بتصادم الديانات والثقافات والحضارات الخ. ما يحدث هو أن دولة اللص او الارهابي لم تعد قادرة على الامساك بهما، بعدما ربتهما ودربتهما على أبشع أشكال الاستغلال والقتل، وأفلتتهما مرارا من عقل الدولة لممارسة جنون التجارة والسياسة والحروب. الاستعمار في أصله التاريخي هو نتاج هذا الجنون او الفوضى: »مات العالم، وحدي آدم!«. ضحكنا سنة ١٩٦٠ من هذا الشعر اللبناني. وها نحن، سنة ،٢٠٠٨ نضحك مجددا من سوء تأويلنا لهذا الشعر البسيط. فآدم سميث الرأسمالي ما كان يظن ان سلالته »الطاهرة« ستصل الى هذه الهاوية سنة ،١٩٢٩ وتخوض حرب ١٩٣٩ التي أودت بحياة خمسين مليون أوروبي وأميركي، بدون حساب قتلى الأطراف ـ والذين لا يُحسبون عادة. (من يُحصي قتلى فلسطين ولبنان والعراق والصومال وأفغانستان، الخ؟). ربما سعى أ. ع. حجازي الى ذلك في »مدينة بلا قلب«. »الناس في الدنيا عدد/مات ولد/ جاء ولد/ الناس في الدنيا عدد«. لكن أي عدد؟
في المركز يعدون النقود ـ بعدما أثبت ب. ش. السيّاب ان »الذي حارت البرية فيه/ حيوان مستحدث من نقود«، محوّرا ما رآه المعري في عصره: »حيوان مستحدث من جماد« ـ وفي الأطراف لا يعدون النقود التي يودعها »أصحابها« في مصارف المركز، شركاته ومضارباته، عقاراته وأسهمه، ولا حتى الحيوانات البشرية المجمدة الى ان تقوم وتقاوم. وكما هي الحال دواماً، ليس لدى فقراء الأطراف ما يخسرونه سوى فقرهم بالذات، وليس لدى أثرياء المركز ما يربحونه سوى بقايا أموال مسروقة جرى تسليفها في مضاربات النفط والعقارات، وفي حرب الثلاثة آلاف مليار دولار في العراق، او الذهاب الى حروب أخرى في منطقة الحروب العربية والاسلامية.
في الأطراف لا أحد يحاسب أثرياء النفط والمافيات الأخرى على ما حرمت شعوبها من أموال و»تبرعت« بها للصوص المركز. وفي المركز اليوم، تنبري الدول الغربية، العجيبة برأسماليتها وليبراليتها الجديدة، لاكمال سرقات المصارف والشركات بإنفاق أموال المكلفين وحتى غير المكلفين كـ »أثرياء العرب والمسلمين«. وفي الحالتين، تبلغ ذروتها »عولمة اللصوصية«. فهل بقي للسرقة وللرهاب من معنى؟
نحن البدون: »بدون عدد«، »بدون أموال«، »بدون دول«، »بدون هويات«، وحتى »بدون جُثث«… ماذا ينتظرنا قبل نهاية هذه الفوضى الأميركية الصاخبة؟
ينتظرنا أولا ألا ننسى أنفسنا كذوات فاعلة. وثانيا ان نثبت في مكاننا الذي يتناوشه لصوص العالم، من لصوص الصهيونية والرأسمالية الى »لصوص أفريقيا« مرورا بلصوص الشركات المتعدية للجنسيات.
هل نحن أمام عالم كارثيّ؟
ربما نعم. إذ تحول اللص الى محارب، وإذا أريد تغطية اللصوصية الرأسمالية بحروب كونية أخرى. من »اسرائيل« يأتي أول جواب ضد لبنان وسورية وإيران. وفيه كلام خفي: كلام أميركي/ أوروبي وربما آسيوي شرقي. كلام الشركات التي ستحاول تغطية حرب المال بحرب السلاح.
لكن في حالتي التراجع عن الغي او الذهاب الى الحرب، ستشهد الفوضى الاميركية نهاية لجنونها. الجنون الخطر والمكلف جدا. العاقل هو مَن يبتعد قدر مستطاعه عن هذه اللعبة التدميرية الشاملة. ما يحدث ألا يستخف، مثلا، قمة عربية استثنائية؟ ألا يستحق تضامنا عربيا في وجه التهديدات الاسرائيلية الغربية ضمنا؟ أم أن السيدة المركيزة تغط في نومها ولا تريد ان تستيقظ ولو مرة واحدة قبل دفنها؟
أمام هذا المنعطف الخطير جدا في حياة العالم، ما زال في امكان غير المرضى بهذه الوحشية الرأسمالية ان يقبضوا في بيوتهم وأوطانهم على »لصوصهم« و»ارهابييهم«. واذا لم يفعلوا، فليس لهم سوى استذكار شاعرهم الأندلسي: »وبكى بعضي على بعضي معي«.
(كاتب لبناني)
السفير