الأزمة المالية العالمية

أوروبا العالمثالثية

بلال خبيز
تتسرع أغلب التحليلات العربية بزف بشرى انهيار الإمبراطورية الأميركية على نحو لا عودة عنه، والأرجح أن ما تنطق به مثل هذه التحليلات عن هوى وغاية وليس نتيجة إمعان نظر، بل الأرجح أن مطلقي هذه الأفكار السريعة لا ينتبهون لمعنى انهيار الولايات المتحدة وأثر مثل هذا الانهيار على العالم أجمع، وعلى البلاد العربية بوجه الخصوص، بل إنه لم تمض أسابيع قليلة على تصدر خبر منع الولايات المتحدة الأميركية إسرائيل من ضرب إيران صفحات الصحف العربية والأجنبية. مما يوجب على المحلل وهو يطلق أحكامه أن يتفكر قليلاً في معنى أن تفقد الإدارة الأميركية سطوتها على إسرائيل مثلاً. والحق أن السياسات العربية على الدوام لم تكن مرة تعارض التدخل الأميركي في المنطقة بل كانت تعارض انحيازه للتعسف الإسرائيلي في مواجهة الحقوق العربية المشروعة. كان المفوهون العرب، من يسارهم إلى يمينهم ومن محاربيهم إلى مسالميهم، يأخذون على الإدارة الأميركية انحيازها لإسرائيل ولا يأخذون عليها تدخلها.
والأرجح أن صدور هذا الرأي المبشر، على عجل، بانهيار الامبراطورية الأميركية وأفول نجمها لا يأخذ في حسبانه استمرار السعي السوري الحثيث نحو اعتراف أميركي بدور ما لسورية في جوارها، أقله حتى الآن، كما لم يأخذ في حسبانه إشعاع نجم الأمل إثر اجتياح روسيا لجورجيا باستعادة الدور الروسي في مواجهة الدور الأميركي وعودة الحرب الباردة، بعدما كان ديدبان المحللين طوال العقد ونصف العقد المنصرمين التأكيد على انهزام الامبراطورية السوفييتية أمام الامبراطورية الأميركية. وإذ بقدرة قادر أصبحت روسيا نداً لأميركا وصنواً لها بعدما كانت مهزومة في أفغانستان وعلى جدار برلين وغارقة في الفساد والصقيع لسنوات قليلة خلت.
لا ترد هذه الإشارة المتعلقة بروسيا تنقيصاً من شأن حضورها ومتانة دورها على المستوى العالمي. على العكس من ذلك. لم يحدث يوماً أن تحولت روسيا دولة هامشية، حتى وهي تنسحب من أفغانستان، ويجرجر جيشها أذيال الهزيمة خلفه. كذلك لم تكن دولة هامشية حين كانت المافيات تأكل أخضرها ويابسها وتتحكم بأبيضها وأسودها. لطالما كانت روسيا دولة مهمة ولا يستطيع العالم تحمل انهيارها مهما كانت الظروف، ومهما تعقدت أوضاعها. لذلك لم يتورع قادة العالم عن ضخ مبالغ هائلة في الهوة الروسية الفاغرة لأن العالم لا تقوم له قيامة وروسيا النووية لا تستطيع تأمين رواتب علمائها النوويين.
اليوم ثمة فرحة تغمر بعض العرب بقرب سقوط أميركا، متناسين أن مثل هذا السقوط يترك آثاراً لا يمكن التحكم بنتائجها في زوايا الأرض الأربع. ذلك أن تدني مستوى الاستهلاك الأميركي وحده، من دون البحث في الآثار الأخرى لأي انهيار اقتصادي مزعوم، قد يجعل الصين تعاني الجوع والعطش، ويضرب الاقتصاد الهندي ضربة ساحقة لا قيامة له بعدها.
قد يقول قائل هذا لا يعنينا من قريب أو بعيد، فلتحل الصين مشكلاتها ولنترك نحن لنحل مشكلاتنا، لكن الصين ليست بلداً يمكن تجاهله إن جاع أو عطش، وليست بلداً يمكن تجاهله أيضاً إن تعطلت مصانعه، أو عجز عن تأمين حاجاته من الأرز أو القمح. لأن حدوث مثل هذا العجز قد يجعل أسعار القمح أو الأرز تبلغ أرقاماً فلكية، مما يُعجز بلدان كثيرة في المنطقة ويضعها في عين العاصفة. ومؤدى هذا كله، أن الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين لا تتعرض للانهيار بسبب أزمة طاحنة، فضلاً عن أن انهيارها لا يكون محلياً ويطاول شعبها فقط، بل إن مثل هذا الانهيار له نتائج كارثية على العالم أجمع، وهي نتائج تطاول شعوب العالم كله قبل أن تصل للشعب الأميركي.
ثمة مفارقة أخرى تتعلق بطبيعة الانهيار المزعوم، ذلك أن المؤسسات المتعثرة في الولايات المتحدة هي مؤسسات الاقتصاد الافتراضي. أي تلك المؤسسات التي تبيع سلعاً غير ملموسة، من خدمات التأمين إلى الكفالات إلى التسليف المصرفي. وكلها تقع في قلب ما يسمى باقتصاد العولمة، وحيث إن العولمة الاقتصادية ولدت حرة ومن دون قيود من أي نوع، وأدت حريتها هذه إلى أزمات كبيرة في أكثر من بلد من بلاد العالم المتقدم، من اليابان إلى كوريا الجنوبية وصولاً إلى بريطانيا وفرنسا أثناء أزمة المضاربات المالية في التسعينيات، وبدت ثائرة على فكرة الدولة نفسها، وظهرت بوصفها أكثر أعداء الدولة-الأمة شراً وخطراً على الإطلاق. وواقع أن الدولة الأميركية وجدت نفسها مضطرة للتدخل في هذه السوق إثر ما أصابها من علل وانهيارات، لا يعني في مطلق الأحوال عودة الاشتراكية مثلما كتب كثيرون مستهجنين ومستغربين، بل إنه يعني على الأرجح أن الولايات المتحدة، دولة ونظاماً ستخرج من هذه الأزمة متحكمة بمفاصل اقتصاد العولمة الجديد كلها. ما لم تقلع أوروبا عن ترددها المقيت، وتلجأ إلى صنع شراكة مع الولايات المتحدة في التحكم باقتصاد المستقبل، وحيث إن الحذر الأوروبي أصم ولا يخترق، فإن مصير أوروبا نفسها أن تتحول إلى عالم ثالث.
* كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى