الأزمة المالية العالمية

الرأسمالية..لا الإرهاب ما يقوّض »طريقة الحياة الأميركية«

سمير كرم
ادوارد بيلامي ـ وان لم يكن معروفا خارج الولايات المتحدة ـ هو أشهر روائي طوباوي في تاريخ الأدب الأميركي، بل في تاريخ الفكر الاشتركي الأميركي. ولا تزال روايته »التطلع الى الوراء« (١٨٨٨) هي الأكثر حياة في العقل الجمعي الأميركي.. حتى في أكثر أوقات نفور الأميركيين من الأفكار الاشتراكية وخوفهم مما هو اشتراكي.
في روايته هذه التي لا تزال تتمتع بشعبية واسعة النطاق، ينام بطلها جوليان وست، وهو أميركي عادي، في إحدى أمسيات مدينته بوسطن عام ١٨٨٧ … ولا يستيقظ إلا في أول أيام عام .٢٠٠٠ يستيقظ ليجد عالما جديدا مع الألفية الثالثة زالت فيه الفوارق الهائلة في الثروات ومستويات المعيشة. استيقظ ليجد أميركا وقد أصبحت بلاداً مختلفة تماماً تتسم بالرعاية والعناية بالناس، وحيث تحل المساواة والعدالة محل اللامساواة والظلم. انه ـ على النقيض من مجتمع القرن التاسع عشر ـ المجتمع السليم.
في اليوم الأول من الألفية الثالثة ١ كانون الثاني/يناير ٢٠٠٠ في أميركا الحقيقية لا الروائية، حاول حفيد بيلامي أن يتطلع الى الوراء ليعرف ما جرى للولايات المتحدة، مختلفا عن تصورات جده الطوباوية الاشتراكية. وكتب مايكل بيلامي مقالا قال فيه إن جوليان وست لو استيقظ الآن لفضل أن يعود الى النوم، متمنياً أن لا يستيقظ أبدا على هذا العالم مادامت الأمور على حالها، لا تختلف عما كانت عليه في الزمن الذي كان يعيش فيه. وقال بيلامي الحفيد إن بطل رواية جده ما كان ليجد أميركا قد حققت أي تقدم لسبب أساسي هو أنها أخفقت في التصدي لمشكلة اللامساواة.
في اليوم الثاني من كانون الثاني /يناير ٢٠٠٨ كتب المعلق السياسي اليساري الأميركي جويل هورشهورن »ان يوم قيامة سياسياً عالمياً ربما يكون قد وصل بالفعل«. يصف هورشهورن وضعاً لا يكاد يختلف في شيء عن الوضع الذي أراد بيلامي الجد أن يجد نقيضه في بداية الألفية الثالثة، مع فارق واحد هو انه يجد أن هذا الوضع أصبح عالمياً. فالعالم تأمرك، تبنى الرأسمالية الأميركية كما هي بكل عيوبها .. وبالتالي مصائبها. قال هورشهورن إن حالة من تطور الشر في العالم الرأسمالي تصل الى حد ممارسة سياسة تتعمد ترك العنف يعيش ويزدهر، بما في ذلك عنف المتمردين، ولا تتصدى له إلا بأقل الجهود فاعلية، بينما تهتم بتـبديد طاقة المفكرين المتمردين الذين لا يطيعون قوانين المجتمع الرأسمـالي الجائرة. إن أشــكالا من أشد أشكال الطغيان فســادا ـ وإن تكـن في الوقت نفسـه قانونية ـ تختــبئ في صــورة نظم ديموقراطية آتية من انتخابات حرة. فليس من شيء يخفي الطغيان كما تخفيه الانتخابات«.
قال هوشهورن ايضا »ان قلة من الأميركيين فحسب تقبل حقيقة أن حكومتهم هي حكومة أغنياء تقوم على حزبين يخضعان للأثرياء ويشكلان طبقة حاكمة ثرية. وفيما يتآكل باطراد حكم القانون، فإن ذلك يختفي تحت قناع من حريات المستهلكين اليومية. ولان الناس يريدون أن يكونوا سعداء ومتفائلين، فإن هناك إنكارا وبائيا للحقائق، وهذا ما يظهر بجلاء في الحملة الانتخابية الراهنة للرئاسة«.
وصحيح أن هذه الحملة لم تعد قادرة على الاستمرار في تجاهل الأزمة، إلا أن هوشهورن كان محقاً في ما قال. بل الواقع أن الاطلاع على ما يكتبه اليساريون الأميركيون طوال العامين الأخيرين قبل وقت طويل من أحداثها الأخيرة التي تتجاوز في تأثيراتها أحداث ١١/٩/٢٠٠١ يفرض تساؤلا كيف أن أحدا لم يسمع ما قالوه وحذروا منه. لقد كان بالإمكان تجنب وصول يوم القيامة السياسي الى العالم على النحو الذي يرقبه الجميع بهلع لا يمكن وصفه. ولا يعني هذا أن اليساريين كانوا وحدهم الذين بكروا بتوقع الكارثة. لقد وصل المواطن الأميركي العادي، الذي تتكدس في جيوبه أقراص المهدئات والمنومات، الى قناعة بأن النخب الحاكمة تمارس عليه خداعا لا ينتهي، انما يقوى ويتعمق في أوقات الحملات الانتخابية. وهذه المرة لم يعد من اليسير إخفاء التماثل الذي يكاد يصل الى حدود التطابق بين المرشحين النهائيين وحزبيهما.
وليس من قبيل الصدفة أن الكتّاب اليساريين الأميركيين يقدمون من التحليلات ما يكاد يفوق كماً ونوعاً ما ينتجه الكتّاب التقدميون في العالم الصناعي كله مجتمعين. إنهم يعوضون بذلك عن نقص المناقشات العامة في المجتمع الأميركي حتى وهو يمر بأكثر الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية حرجاً، وقد برز خاصة في الفترة الأخيرة في الكتابات اليسارية الأميركية ـ الأكاديمية، اصطلاح »الابارتهايد الاقتصادي« تعبيراً عن أوضاع التمييز والفصل الاقتصادي التام بين أثرياء أميركا وكل الباقين.
مع ذلك يبقى أن اصطلاح اللامساواة لوصف الكارثة الحالية والكارثة الأكبر المحدقة هو الأكثر تعبيراً عن السبب الأول والأساسي في الأزمة الراهنة للنظام الرأسمالي العالمي. فإن ما حدث ما كان يمكن أن يحدث إلا لأن المجتمع وقف جانبا يرقب الثروات الضخمة تتراكم في خزائن قلة من أعضائه. بينما كان الباحثون الاقتصاديون والاجتماعيون يتوقعون اذا حصل كل هذا التفاوت في الثروات أن يواجه بتمرد واسع النطاق. وعلى مدى العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل اتسعت هوة التفاوت .. لكن النظام الرأسمالي تمكن من أن يحقق لنفسه استقرارا على أساس وجود طبقتين: طبقة دنيا تخدم طبقة النخبة الثرية العليا. وكانت استراتيجية النظام في ذلك لا تخرج عن حدود الإبقاء على الطبقة الدنيا في حالة من التشتت والخوف والخضوع، مع الاحتفاظ داخل أفراد هذه الطبقة بشعور خادع بأن الفرصة تبقى مواتية لكل منهم للتحرك لأعلى للانضمام الى النخب الثرية. ساعد على ذلك أن جانباً مهماً من الأساطير الشعبية منذ حمى الذهب كان قد أصبح جزءاً من ثقافة الشعب الأميركي هو الهوس بفكرة الصبي المهلهل بائع الجرائد ـ مثلا ـ الذي يكبر ثرياً لا حدود لثروته وجاهه ونفوذه. هذا هو البطل الأميركي. وهي صورة طاردة لصورة البطل الذي يناضل من أجل هدف شعبي أو طبقي.
المهم أن التمرد العام المتوقع لم يقع، ووقع النظام والطبقة العليا فيه في وهم الاعتقاد بأن الخطر لن يقع أبدا.
وجاءت الأزمة الراهنة لتبرهن على أنه من غير الممكن أن تبقى اللامساواة »غير ذات موضوع«، وأن تبقى سيطرة الأغنياء بلا تحد. لقد تبين أن أميركا تتعثر ويمكن أن تسقط ويسقط نظامها الرأسمالي … وصل الأمر الى مشارف نهاية هذا النظام. اختفت فجأة طوابير المبررين لنظام اللامساواة باعتباره مصدر قوة أميركا وثرائها. آخرهم ربما كان جورج بنسون عميد كلية الأعمال في جامعة جورجيا الذي كان يقول »اللامساواة هي الحافز لخلق الثروة الذي هو ضروري لمجتمع متحضر. إنها توفر الدافع لنا جميعا لكي نتفوق في أعمالنا مهما كانت. وخلال ذلك التفوق نعالج الأمراض ونبني علماً موهوباً من المؤسسات التعليمية ونخترع التكنولوجيا التي تحسن مستوى حياتنا وتوفر ما يكفي من الطعام لإطعام الجياع، وتخلق أعمالا فنية تلهم وتمتع. لسوف ننعم برخاء أبدي طالما نسعى وراء الثروة ونشرّف أولئك الذين ينجحون في مسعاهم أكثر من غيرهم«.
ويختتم العميد بنسون قائلا »لهذا في المرة القادمة عندما تسمع أحدا يسب الأثرياء تذكّر أن الأثرياء ـ وقد كانوا دائما وسيظلون ـ هم جزء متكامل من بنية الحوافز التي تدفع اقتصادنا للأمام ومعها طريقة حياتنا الأميركية«.
عندما أعلن جورج و. بوش »الحرب العالمية على الإرهاب« في اليوم التالي لأحداث ١١/٩/،٢٠٠١ كانت حجته الأولى أن الإرهاب يهدد »طريقة الحياة الأميركية«. والآن بعد سبع سنوات يتبين بوضوح أن ما يهدد طريقة الحياة الأميركية ليس الإرهاب بل النظام الاقتصادي ـ السياسي الأميركي نفسه. لقد سارت أميركا على هذا الطريق تحت توجيه وإمرة رؤساء مجالس الإدارات الذين حققوا لأنفسهم تميزاً جعلهم يقبضون بمئات الملايين في الوقت نفسه الذي تخسر فيه شركاتهم وتضطر (هل حقاً تضطر؟) لطرد آلاف العمال والموظفين من وظائفهم لينقطع المصدر الوحيد لرزقهم.
إن تاريخ الأزمة طويل ومعقد، لا يتسع المجال له في مقال… لكن نقول ـ اختصارا ـ إن السنوات الثلاث الأخيرة كانت سنوات الحصاد المر لسياسة تمديد الجشع الرأسمالي ودق الطبول له، بما في ذلك طبول الحرب. وما الظواهر التي يعيشها العالم الحالي وينتظر نتائجها المخيفة سوى نتيجة منطقية لحلول وقت دفع أميركا ثمن اللامساواة واضطرار إدارتها الحاكمة الى تجرع مرارة اتخاذ إجراءات التأميم والمصادرة والتخلي الحكومي التي كثيراً ما اعتبرتها مصدر الفقر والبطالة .. وحتى مناقضة لطريقة الحياة الأميركية.
الآن وقد جاء دور علاج الأزمة، فلا أحد من أركان النظام قادر على التحدث بأية درجة من الثقة أو التفاؤل.. لم يعد أحد يملك من الإيمان بالنظام الرأسمالي قدراً يستطيع معه أن يؤكد انه »سيصلح نفسه بنفسه« »الخزانة« كما اعتادوا أن يقولوا عن السوق الحرة. حتى وزير الخزانة صاحب خطة الإنقاذ سارع الى معالجة أي قدر من الوهم يمكن أن يتسرب الى أفئدة الأميركيين، فأكد أن الإنقاذ لن ينتشل شركات ومصارف اخرى ستعلن إفلاسها حتى بعدما وافق الكونغرس على اعتماد ٧٠٠ مليار دولار للإنقاذ.
[[[
أميركا اليوم، والعالم الرأسمالي كله، يبدو لأول مرة بحاجة الى إعادة نظر على أساس النظام الآخر .. حتى وإن لم تسمه اشتراكية، حتى إن لم تستمده حرفياً من كتب الماركسية. وقد بدأت أولى خطواتها على الطريق، يحدوها أمل أن لا تسير فيه إلا خطوات قليلة تفرضها الضرورة. والضرورة حتى الآن لا تتجاوز إنقاذ الرأسمالية من نفسها. لكن الخطوات التالية ستأخذها مرغمة الى البحث في إجراءات »متطرفة« من نوع:
الضرائب التصاعدية ـ الحد الأقصى (وليس الأدنى) للأجور ـ إشراك الاتحادات العمالية والمهنية في إدارة الاقتصاد وإعادة قدرة الاتحادات والنقابات على مساومة الشركات وحتى الحكومة على أوضاع العاملين وشروط عملهم ـ القضاء في خطة حاسمة وسريعة على »الجريمة المنظمة« التي تمثل في المجتمع الأميركي نسبة كبيرة من الاقتصاد الحر تحت الأرض ـ طي صفحة الأفكار من نوع خصخصة أموال الضمان الاجـتماعي وهو أحد أخطر مشاريع الإدارة الأميركية لكي ينهب الرأسماليون معاشات تقاعد وتأمينات العـاملين كافة ـ العودة الى دور أكبر للحكومة في قطاعات استراتيجية من الاقتصاد ـ أجور مساوية للعمل المتساوي …والآتي أعظم. ولكن هل أميركا مستعدة؟!
([) كاتب سياسي عربي من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى