»تأميم الخسائر وتخصيص الأرباح«
فواز طرابلسي
بعد قرار ضخ مئات المليارات من الدولارات في القطاع المالي، اتخذت حكومة الولايات المتحدة قراراً سُمّي »راديكالياً« يقضي بشراء الدولة حصصاً كبيرة من الأسهم في مؤسسات القطاعين المصرفي والمالي. يتوخى القرار الجديد الحد من مفاعيل انفجار الفقاعة المالية، خصوصاً أن ضخ الأموال لم يكن كافياً لوقف التدهور وبعدما تسربت الأزمة إلى القطاعات الإنتاجية. وهذا ما يفسر »الراديكالية« المنسوبة إلى الإجراء الأخير.
يجدد هذا الإجراء النقاش حول دور الدولة في الرأسمالية وأزماتها. وقد كثر وصف الإجراءات المالية الأميركية والأوروبية الأخيرة بأنها من قبيل »التأميم«، بل ذهب البعض إلى اعتبارها إجراءات »اشتراكية«.
الاشتراكية، كائناً ما كانت منوعاتها والرأي في مصائرها، نظام اقتصادي اجتماعي سياسي يقدم نفسه على أنه يسعى إلى تحقيق ملكية المجتمع لوسائل الإنتاج، بغية إزالة الفوارق الطبقية بين البشر. وهو بالتالي نظام لا يختزل لا بالتأميم ولا بما يسمى تدخل الدولة في الاقتصاد. وسوف نرى أن »التأميمات« التي نحن بصددها لا علاقة لها بقريب أو بعيد بتخفيف الفوارق الطبقية بين البشر، بل إن ما سوف يتبيّن هو أنها تساهم في تعميق تلك الفوارق.
على أن ما يمكن ويجب نسبته إلى الفكر الاشتراكي في هذه الأزمة هو ما أسماه البعض »عودة ماركس«. أعني التذكير بأن الاشتراكية، بتراثها الماركسي خصوصاً، لا تزال النظرية الأكثر نفاذاً والأخصب في تحليل الرأسمالية ونقدها وتبديد الخرافات المتزايدة عن المفاعيل السحرية للسوق وقد بلغت حد الهلوسة في عهد الإيديولوجية النيوليبرالية المتعولمة. دون التناسي أن عدداً من توقعات الماركسية بصدد تطور الرأسمالية لم يصح على الإطلاق، لا بد من التذكير بالبعض من مقولاتها الذي يضيء الأزمة الراهنة:
¯ يعود الفضل الأول إلى ماركس في اكتشافه أن الرأسمالية سوف تتخطى حكماً الإطار القومي لتنداح على المدى العالمي برمته. وقد دخلت الرأسمالية المالية طور العولمة الثالث بعد طوري العولمة التجارية والعولمة الصناعية، التي تحدث عنها ماركس وحللها بإسهاب.
¯ مقولة نهم الربح غير المحدود لدى رأس المال، وهو الذي يدفع به بما يشبه الحتم باتجاه القطاعات الاقتصادية أو المناطق حيث أعلى معدلات للربح.
¯ مقولة الميل الدائم للمنافسة الرأسمالية إلى التمركز الاقتصادي وتوليد الاحتكارات.
¯ »القانون الحديدي للرأسمالية« الذي هو قانون التناقض الدائم بين الإنتاج والاستهلاك، فالرأسمالية، تخفيضاً لأكلاف الإنتاج وضماناً لأعلى معدلات الربح، تنتج دائماً ما يفيض عن طاقة المجتمعات على الاستهلاك؛ وهو القانون الذي يقرّ معظم المحللين الجادين بأنه السبب الأبرز في الأزمة الحالية.
¯ الأزمات الدورية هي جزء عضوي من حياة النظام الرأسمالي، بسبب من بنيته ذاتها، وقد ميّز التراث الاشتراكي بين أزمات قصيرة المدى وأزمات كوندراتييف طويلة المدى (المسماة على اسم الاقتصادي السوفياتي الذي اكتشفها).
¯ ميل رأس المال الدائم إلى الانتقال من دائرة الإنتاج إلى الدائرة المالية، وهو الاتجاه الذي ركّزت عليه المفكرة والقائدة الماركسية الألمانية روزا لوكسمبرغ، وطوّره لينين عند تعيينه خصائص الإمبريالية بما هي »أعلى مراحل الرأسمالية«. وقد
ظهر هذا الميل بأجلى صوره وأضخمها مع تكوّن »الفقاعات المالية« الكونية خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
من جهة ثانية، فالإيحاء بأن حكومات الدول الرأسمالية الكبرى لم تكن »تتدخل« في الاقتصاد خلال هذا الطور من العولمة النيوليبرالية أو ما سبقه من أطوار نمو الرأسمالية، وقد بدأت في »التدخل« للتو، فيقتضي وقفة ولو سريعة لتبيان مدى الخطل الذي ينطوي عليه.
لنذكّر بأن الأزمة الحالية إن هي إلا أزمة من أزمات عديدة انفجرت خلالها الفقاعات المالية خلال ربع القرن الأخير من العهد النيوليبرالي. أبرزها أزمة الإفلاس المكسيكية عام ١٩٩٤ ـ ١٩٩٥؛ وأزمة الأسواق المالية الآسيوية عام ١٩٩٧ ـ ٩٨؛ والانهيار الذي عصف ببورصة نيويورك عام ٢٠٠١ على أثر سقوط أسعار أسهم شركات الإنترنت، وقدّرت خسائره بسبعة ترليارات من الدولارات. في كل هذه الأزمات، تدخلت دول البلدان المعنية ودول البلدان الصناعية الكبرى لضخ الأموال العامة من أجل إعادة التوازن إلى القطاع المالي. مثال على ذلك التدخل الدولي، بمبادرة الولايات المتحدة الأميركية، لمنح المكسيك نحو ٥٠ ملياراً من الدولارات لإنقاذ اقتصاده من الانهيار وإنقاذ سمعة »المعجزة المكسيكية« النيوليبرالية في »التعديل الهيكلي«.
المسألة إذاً ليست أن تتدخل الدولة أو لا تتدخل. ولا أن تؤمم أو لا تؤمم، بل كيف تتدخل وماذا تؤمم والأهم تتدخل وتؤمم لمصلحة من.
وهكذا فالدولة الأميركية، التي تحرّم »تدخل الدولة« في الاقتصاديات العالمية، وخصوصاً اقتصاديات البلدان النامية والفقيرة، وترفض حماية الإنتاج المحلي والدعم الحكومي للسلع الحيوية، وتتدخل كل ساعة ويوم لفرض هذه التحريمات على العالم بأسره، تجيز لنفسها ما تحرّمه على سواها. ممنوع على العالم وخصوصاً بلدان الجنوب حماية صناعاتها والزراعات لكي تبقى نهباً للمنافسة غير المتكافئة تفرضها عليها الدول الصناعية المتقدمة. ومع ذلك فحكومة الولايات المتحدة الأميركية تحمي صناعة الصلب تبعتها من المنافسة الأوروبية وصناعة الأنسجة من منافسة الأقمشة التي تصدّرها بنغلادش، أحد أفقر بلدان العالم! ناهيك عن حماية الدولة الأميركية للمزارعين الأميركيين بواسطة دعم إنتاجهم فيما هي تناهض مثل تلك الإجراءات عندما تصدر عن السوق الأوروبية المشتركة مثلاً.
لعل أفدح ما في جعبة »عدم تدخل« الدولة الأميركية في الاقتصاد هو دعمها القطاعات الاقتصادية التي لا شك إطلاقاً في تعرّضها لأي خطر أو حاجتها إلى الحماية من منافسة بل تلك التي تجني أعلى معدلات الأرباح إطلاقاً. تجني شركات النفط الأميركية حوالى ١٢ مليار دولار من الأرباح كل ثلاثة أشهر. ومع ذلك، فهي تحظى بدعم مال مباشر من الدولة الفدرالية الأميركية ودعم غير مباشر على شكل إعفاءات جمركية وضريبية شتى. وردت هذه الأرقام على لسان باراك أوباما، المرشح الديموقراطي للرئاسة الأميركية، الذي وعد الأميركيين بوقف الدعم وتحويل أمواله إلى صندوق الضمان الصحي. لنرَ إن كان سوف يبرّ أوباما بوعده، خصوصاً بعد الأزمة الحالية.
ومن جهة أخرى، مَن الذي فرض التعديلات الهيكلية في العالم؟ ألم تكن أجهزة الدولة هي الواسطة التي بها شرعت وفرضت التحويلات الأساسية في اقتصاديات بلدان العالم تلبية لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين تسيّرهما وتموّلهما الولايات المتحدة الأميركية؟
في لبنان، بلد الاقتصاد الحر وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد بلا منازع، في لبنان المتعولم قبل العولمة، نظام ضريبي قوامه الضرائب غير المباشرة، يرعى تهرّب الأغنياء من التصريح ناهيك عن التكليف، ويمارس الدور المعاكس لأي نظام ضريبي إذ يدوّر ما قدّره اقتصاديون بعشرين مليون دولار سنوياً من مداخيل ذوي الدخل المحدود والطبقات الوسطى إلى جيوب الشريحة الأغنى من اللبنانيين. هل فرض هذا النظام بمعزل عن الدولة وعن سيطرة طبقة من كبار المقاولين والمستوردين والمصرفيين عليها؟
¯¯ تسليم وسط مدينة بيروت لشركة خاصة حصراً، على حساب المئات من أصحاب الحقوق، واستصدار كل التشريعات اللازمة لتوفير أرخص أسعار الأراضي لها والتغطية على تجاوزاتها. ألا يشكّل »تدخلاً« للدولة في الاقتصاد؟
¯¯ إعطاء رخص لشركتي خلوي خرقتا كل ما في العقود بينهما وبين الدولة من موجبات وجعلتا لبنان من أغلى بلدان العالم من حيث تسعيرة الهاتف الخلوي وحققتا وتحققان عشرات بل مئات ملايين الدولارات من الأرباح سنوياً. هل تمّ هذا دون إرادة الدولة وبغض النظر عن أن مالكي الشركتين هم من رجالاتها؟
¯¯ خفض الرسوم الجمركية إلى حد الإلغاء حتى قبل مضي السنوات العشر المقررة كفترة سماح من قبل وكالة التجارة الدولية، الذي شكّل سابقة تاريخية في الحماسة للاقتصاد الحر، هل تمّ دون علم الدولة ودون »تدخلها«؟
¯¯ دعم احتكار الأدوية ورفض تفعيل صندوق الدواء، والدفاع عن الوكالات الحصرية، أبرز أشكال الاحتكار التجاري، في بلد يزعم أنه يقدّس حرية التجارة، ألم يكن هذا وسواه يتطلّب »تدخلاً من الدولة«.
يتلاقى على خصخصة إنتاج الكهرباء الآذاريون جميعهم، من جماعة الثامن كما الرابع عشر. بادر إليها الوزير محمد فنيش، وتبناها رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، وباركها التيار الوطني الحر واستعجل ويستعجل رئيس مجلس النواب نبيه بري تحويل القرار الوزاري فيها إلى مشروع قانون وإحالته فوراً إلى الهيئة التشريعية، فيما افتتح الرئيس ميشال سليمان عهده اقتصادياً بإعلانه أن بلداً تحقِّق فيه المصارف تلك المعدلات العالية من الأرباح لا يزال بمثابة »سويسرا الشرق«. أليسوا هؤلاء من جماعة »الدولة« يتدخلون معاً في الاقتصاد وبوجهة واحدة؟ لا شك بأن في ذلك تعزيزاً للوحدة الوطنية.
عليه، فالمرفوض، بمنطق النيوليبرالية المسيطرة، ليس هو »تدخل« الدولة في الاقتصاد لمصلحة الطبقات المسيطرة على الاقتصاد، وهو »تدخل« يمارس على مرأى الجميع وسمعه، إن أرادوا أن يرصدوا ويلاحظوا ويتصرفوا بناء عليه. بل المرفوض هو »تدخل« الدولة للتخفيف من الأعباء على الطبقات الفقيرة والمحدودة الدخل والمتوسطة، بواسطة دعم المواد الأساسية، واستخدام النظام الضريبي للاضطلاع بتوزيع اجتماعي أعدل، وما شاكلها من الإصلاحات التي وسمت الرأسمالية التي أطاحتها الرأسمالية المنتصرة. بل المطلوب كان ولا يزال تحميل الطبقات الفقيرة والمتوسطة، بما هم الأكثرية الساحقة من دافعي الضرائب، اقتطاعات إضافية من مداخيلهم المتدنية، بسبب الأزمة ذاتها!! من أجل إنقاذ أرباح القلة المسيطرة على الاقتصاد.
ذلك هو النفاق الأكبر في موضوع »تدخل« الدولة وفي تصوير »التأميم« على أنه إجراء يأتي لمصلحة الفئات الفقيرة والمتوسطة من المجتمع. يمكن تلخيص المسألة كلها في المعادلة الصحيحة، والتصحيحية، التي صاغها المفكر الاقتصادي العربي الماركسي سمير أمين إذ قال إن ما يجري الآن من »تدخلات« للدولة و»تأميمات« يمكن اختزاله بالآتي:
تأميم الخسائر وتخصيص الأرباح!
وتتلخص كل قصة مقاومة الرأسمالية المتعولمة في طور أزمتها الطاحنة الحالية في قلب هذه المعادلة رأساً على عقب.