لماذا تتسع دائرة التأييد للتيار السلفي في طرابلس ؟
هلا أمون
سأستهل كلامي بعبارة كتبها جان جاك روسو في مقدمة كتابه “العقد الاجتماعي”: “لو كنت اميرا او مشرّعاً، لما اضعت وقتي في الكلام عما يجب ان يكون، لكنت فعلت او سكت”. وبما أنني انتمي الى الشريحة التي لا تحسن الا الكلام، فسأتكلم، دون ان يعني هذا انني اعرف “ما يجب ان يكون”، اذ يكفيني ان اشير الى مكامن الخطر، وعلى من يعنيهم الامر التنبه والعمل على تجنّب بؤر التفجير ومزالق الفتن.
مجدداً انفجر الوضع الامني في طرابلس بين باب التبانة وجبل محسن، ومجدداً عادت مسألة الفقر والحرمان فيها الى الواجهة، وقد اصبح من المعلوم انه اذا سويت المسألة الامنية – ولو موقتاً – فسرعان ما يتم نسيان او تجاهل الوعود والعهود، بعد التفجع على طرابلس، ومعها يتم نسيان الفقراء والمعدمين والمحرومين، في انتظار حدث جلل آخر يصيب المدينة، الفقراء يدفعون ثمنه من جيوبهم، والساسة يتاجرون به من اجل معاركهم الانتخابية والسياسية، والنتيجة: الدوران في حلقة مفرغة، ولسان حال المدينة يقول: قد اسمعت لو ناديت حياً، ولكن لا حياة لمن تنادي.
طرابلس، ويا للاسف، قد اصبحت رمزا للبؤس والتهميش، وهذا ليس مجرد كلام، فلو سألت اي طرابلسي، هل ما زال يذكر تاريخ آخر المشاريع التي افتتحت في مدينته، او المؤسسة التي دشّنت، او الفندق الذي يشيد، او المصنع الذي أنشئ، أو الجسر الذي بني او الطريق الذي شقّت، او النفق الذي حفر، او الشجرة التي زُرعت، سيأتيك الجواب بالنفي. فمنذ عهد طويل، اضاع الاصلاح او التجديد او التنمية الطريق الى هذه المدينة، التي تحولت شوارعها، ومنذ شهور عدة، الى خنادق اغرقتها في فوضى عارمة، وكل ما تبقى في ذاكرة الطرابلسيين هو ذكريات الموت والدم والمجازر والاعتقالات ابتداء من 1975، مرورا بمعارك نهر البارد، انتهاء بمعارك باب التبانة وجبل محسن الاخيرة والآتي…
لقد عُمل على قتل الاحياء الشعبية في طرابلس درسا وارقاماً ووعودا وعهوداً من قِبل الهيئات والجمعيات والساسة، ولم يُعمل على احيائها بمشروع واحد ينقذها من بؤسها. فهل يمنّ الله عليها بمن ينقذها من نفسها ومن قدرها المحتوم، ومن يضع النهاية السعيدة لمأساتها المتمادية؟ ام ان هناك ارادة خفية تريدها ان تبقى بؤرة متفجرة على الدوام؟!
من الطبيعي ان يكون لهذا الخراب على المستوى المادي، انعكاسات مشابهة على المستوى المعنوي، بدأت تطفو على السطح، ولاسيما بعد احداث أيار الماضية، حيث برزت تطورات خطيرة في ذهنية الطرابلسيين(1). وتبلورت افكار ووجهات نظر وآراء واقتناعات تصبح مع مرور الزمن، اكثر رسوخا وثباتا ووضوحا من ذي قبل، ومعها بدأت تتحدد هوية الخصوم او الاعداء. ويمكن القول بشيء من الجرأة، ان هناك شبه اجماع في اوساط واسعة على ان خصوم الطرابلسيين ثلاثة: النظام السوري، الشيعة، العلويون.
فهم يرون ان النظام السوري قد عمل على تهميشهم اثناء فترة الوصاية، واضعاف زعمائهم ومحاربتهم، وتقليص ادوارهم واحجامهم، وفي المقابل قام بحصر مقاومة العدو الاسرائيلي بالشيعة. وهذا ما ادى في ما بعد الى ظهور مفاهيم وافكار غريبة ومغلوطة فحواها ان الشيعة مقاومون، وان السنة ارهابيون ومتطرفون.
وما فعله “حزب الله” لاحقا هو تأكيد هذه المقولة عبر اتهاماته المتكررة، المبطّنة والمعلنة، لبعض القادة السنة بالعمالة لأميركا واسرائيل، وعبر محاولاته الدائمة لاظهار انه الوحيد الحريص على شرف الامة وكرامتها، وعلى استرجاع الاراضي المسلوبة وأن البقية الباقية من البشر في لبنان والعالم العربي هي اما متخاذلة او متقاعسة او متواطئة او عميلة او خائنة. واهل السنة الذين يعتبرون انفسهم ارباب المقاومة واساتذته، واول من بدأها، والذين يفخرون بنضالهم التاريخي ضد الكيان الاسرائيلي، يرون في استئثار “حزب الله” بمقاومة اسرائيل، حرمانا غير مبرر، من قيامهم بواجبهم الشرعي في “الجهاد”.
والخصومة مع النظام السوري تجعل الطرابلسيين في حالة قلق واستنفار دائمين لمقاومة عودة الوصاية السورية الى لبنان، ولاسيما بعد الحديث عن الانتشار العسكري السوري على الحدود الشمالية، والذي اعاد احياء ذكريات تجارب قاسية مشوبة بالاعتقالات والتوقيفات العشوائية والكثير من الممارسات التي عاشها الناس ههنا، وانحفرت في وجدانهم، ولا احد منهم يريد تكرارها، او يسمح بعودة عقارب الساعة الى الوراء ومن الملاحظ ان احساس الطرابلسيين أنهم مستهدفون من جهات عدة، جعل دائرة التأييد للحركات الدينية، ولاسيما التيار السلفي في طرابلس، تتسع أكثر وأكثر، خاصة بعد أحداث أيار التي تركت جرحاً عميقاً يصعب شفاؤه، أو محوه من الذاكرة؛ وبعد التصريحات السورية الاخيرة، أن طرابلس باتت بؤرة للتطرف والارهاب، ما يؤكد أن كل شعور بمحاولة البعض تهميش الطرابلسيين، أو مسّ كرامتهم يصبّ في نهاية الامر في مصلحة التيارات الدينية، والمتشددة منها، والتي باتت تمثّل بالنسبة الى البعض الحصن والملاذ والدرع الحامية من هجمات الآخرين وافتراءاتهم. وهذا ما حدث مع التيار السلفي الذي أشاع الاعلام – ولاعتبارات متعددة – أن المنتمين اليه هم ابطال الدفاع عن أهل السنة في المعارك الاخيرة، ما أوحى للكثيرين أن اصحاب هذا الفكر هم المدافعون الحقيقيون عن العقيدة، ما أكسبهم شعبية لم يكونوا يحلمون بها في صفوف عموم الناس. فأهل السنة الذين سئموا فعلاً من تكرار اتهامهم بالتشدد والتطرف، باتوا يشعرون أن عليهم التوحد والالتفاف حول بعضهم البعض للحفاظ على وجودهم، ما يعني أن تكرار الاتهام بالتطرف، ومحاولة الصاق شبهة الارهاب بهم لمجرد أنهم متدينون، قد أديا الى نقيض المتوقع منهما. فالظاهرة الدينية في ازدياد وليست الى تراجع.
ويمكن القول إن هناك في طرابلس من بات يعتبر الشيعة بأكملهم خصوماً للسنّة، وتراهم يلتهمون الكتب التي تناول تاريخ الشيعة: نشأتهم، فكرهم، فقههم، ليستلهموا منها حججاً وأدلة تدينهم، وربما تصل الى حدّ تكفيرهم. وهناك مَن يقوم بعملية فرز وغربلة، معتبراً أن “حزب الله” وحده هو الخطر الاول والداهم على أهل السنة، لأنه يعمل دون كلل على استكمال ما بدأه النظام السوري تمهيداً لوضع لبنان تحت سيطرته، بعد انجاز مشروعه الخاص الذي يتلخص بإقامة الدولة الاسلامية التابعة لولاية الفقيه في ايران. وقد جاءت أحداث ايار الماضية، لتؤكد هذا. ما جعل أهل السنّة في طرابلس يلتفون حول قياداتهم، رغم عدم رضاهم التام عن أدائهم، ورغم انتقادهم لتقصيرهم الدائم في إعادة إحياء المدينة، ورفدها بمقومات الحياة والنمو.
وهكذا بدأوا يقومون بمراجعة نقدية لمصطلح “المقاومة”، كانت خلاصتها أن “حزب الله” هو مجرد ورقة في يد ايران وسوريا.
ويمكن الجزم أن ما حدث في أيار، كان حدثاً كارثياً بكل المقاييس، فقد أجّج نار الفتنة والفرقة، وبذر بذور الحقد والغضب، وجعل أهل السنّة يشعرون أن كرامتهم قد انتُهكت بالفعل.
إن هذه الاحداث لم تُسقط فقط شرعية المقاومة في نظر أهل السنّة، بل أحدثت تصدّعاً عميقاً، وأوجدت خطوط تماس نفسية بين السنّة والشيعة، لم يستطع أهل السنّة بعد، تجاوزها أو الشفاء من آثارها، رغم ضجيج الحديث عن المصالحات واللقاءات الاعلامية.
أما العلويون، او “النصيريّة” كما يسميهم أهل طرابلس، فرغم وجود العديد من حالات المصاهرة والعلاقات التجارية بين أبناء الطائفتين، الا أن المشكلة معهم شائكة ومعقدة ومتجذرة، ولها أسبابها النفسية والسياسية والمذهبية، وهي تتغذى على ذكريات دموية ومؤلمة، يبدو أنها تحولت الى حقد دفين، والى إرث معنوي ونفسي يتوارثه الابناء عن الآباء. والحديث الى الناس يعطيك انطباعاً يومياً أنه من الصعب، إن لم نقل من المستحيل حالياً، فكّ الاشتباك بين الطائفتين، أو خلق الظروف الموضوعية والنفسية المؤاتية، لتفتيت ركام التنافر والبغضاء الذي رسخته السنون، والتوترات الاخيرة التي شهدتها منطقتنا باب التبانة وجبل محسن، كانت بالنسبة الى البعض الفرصة السانحة لتصفية الحسابات القديمة، مع مَن وقف مع “الغريب” ضد “ابن عمه”. ولهذا قدم الشباب من كل الاحياء والازقّة والزواريب، ومن الانتماءات الحزبية كافة للمشاركة في القتال. وقد ولّد انعدام التوازن العسكري بين الطرفين، غصة وحسرة واستياء وعتاباً ونقداً لاذعاً من قبل الشباب السُني للقيادات السياسية السُنية، التي لم تعمل على تسليحهم او تدريبهم او إعدادهم إعداداً جيداً لخوض معركة من هذا النوع، والتي ظهر جلياً أنهم لم يكونوا مستعدين لها، وأنهم زجوا في أتونها زجّاً.
ومع ذلك فقد شارك الجميع، كل بحسب امكانياته المادية وقدراته الجسدية ومهاراته القتالية. وهكذا سقطت التصنيفات والتمايزات جميعها، لتبرز العصبية السنيّة وحدها، التي قدّموها على جميع ولاءاتهم وانتماءاتهم وارتباطاتهم بالشخصيات السياسية او الحزبية. فالجميع هنا في خندق واحد، وفي خدمة قضية واحدة: التجّار وأصحاب الاعمال والمؤسسات والاثرياء، لخلق بعض التوازن بين الطرفين المتقاتلين.
لقد تغيرت طرابلس بعد أحداث أيار. أجل إن طرابلس منكوبة ومحرومة ومهمشة ومقصيّة عن مشاريع التنمية، ولكن ذلك الثالوث الذي يثير مخاوف أهلها ويقلقهم، ويشحن في الوقت عينه عصبيتهم المذهبية ويشدهم الى بعضهم البعض، يجعلهم ينسون أحياناً مسألة التنمية.
ولذلك، ورغم رفع شعارات المصالحة ووأد الفتنة، فإن النار في طرابلس لا تزال تحت الرماد، وهي مرشحة للاشتعال في أي لحظة، وهذا الوضع بات يستدعي طرح اسئلة عدة ملحة: من هو المسؤول عمّا آل إليه الوضع في طرابلس؟ ومن اين تبدأ الحلول والمعالجات، من الاقتصاد والتنمية؟ من السياسة؟ ومتى يحين الوقت للعمل على تغيير السلوكات والافكار والذهنيات وتعديل المشاريع التي تقلق الشركاء في الوطن؟
ثم، لماذا لا يقوم الحريصون على طرابلس بعملية جرف باب التبانة، وإعادة بنائها من جديد، على أمل أن تُجرف معها الذكريات والاحقاد؟ والى متى سيظل مَن هم في سدة المسؤولية ينشغلون بالكلام، ويتلهون بالتحليلات، ويؤجلون العمل البنّاء والمفيد والمجدي، لاغلاق “فضيحة” باب التبانة، وغسل هذا العار، الذي إن لم يقض مضاجعهم ويؤرق ضمائرهم، فكيف يجرؤون على تسمية أنفسهم “نوّاب الأمة”؟
(أجزاء من نص أطول)
(1) عندما اقول “طرابلس” فأنا اقصد معظم اهل الشمال لاسيما ان نحو خمسين في المئة من سكان طرابلس السنّة يتحدرون من اصول طرابلسية، اما النسبة الباقية فتأتي من الاقضية المجاورة: عكار، الضنية، الكورة…
هلا رشيد أمون – طرابلس
(استاذة في الجامعة اللبنانية)
النهار