هل تحلّ الدبلوماسية إشكالية العلاقة اللبنانية – السورية؟
خالد غزال
ينظر اللبنانيون إلى تاريخ 15/10/2008 في وصفه أحد الأيام التاريخية، حيث جرى توقيع الاتفاق بين لبنان وسورية على إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، وذلك بعد مرور ستة عقود ونصف العقد على نيل لبنان استقلاله. شكل هذا المطلب منذ الأربعينيات واحدا من الإشكالية الدائمة بين الحكم القائم في سورية على مختلف القوى السياسية التي حكمت فيها، وبين الحكم اللبناني في مختلف العهود. كان الرفض السوري هو الأساس الذي منع قيام علاقات دبلوماسية، وكان هذا الرفض يغلف دائما منطقا سياسيا لا يخلو من التشكيك بالكيان اللبناني وبمطالب سورية محددة، وصولا الى التذكير بأن قسما من أراضي الكيان اللبناني تعود بالاساس الى سورية، مقرونة بالنظرية الدائمة التي سادت منذ أكثر من أربعة عقود حول «شعب واحد في بلدين». فما المستجدات السياسية دوليا وسورياً ولبنانيا التي فرضت إنجاز هذه الخطوة؟ وما أهميتها لبنانيا؟ وهل ستضع فعلا حدا للإشكالية اللبنانية السورية القائمة منذ الاستقلال؟ وهل سيعطي الحكم السوري للخطوة مضمونها الحقيقي أم سيجري تفريغها وتحويلها إلى مسألة شكلية..؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها أمام كل القوى السياسية اللبنانية، سواء أكانت مخاصمة لسورية أم موالية لها.
ما الأهمية التي تشكلها اقامة علاقات دبلوماسية بين لبنان وسوريا؟ بعيدا عن القول بشكلية الخطوة التي يروج لها مناصرو سورية في لبنان، وبعيدا ايضا عن التهليل الانتصاري الذي يسود لدى الفريق المناهض لسورية، فان خطوة إقامة العلاقات الدبلوماسية مهمة لبنانيا لجهة الاعتراف النهائي بشرعية الكيان الوطني، وتثبيت الاستقلال اللبناني، وتكريس الكيان والاستقلال في المواثيق الدولية بما يعطي العلاقات شرعية دولية، وتسمح للبلد باللجوء الى هذه الشرعية في أي خلافات مستقبلية. بهذا المعنى «النظري» ليست العلاقات الدبلوماسية شكلية بين لبنان وسورية، بل مهمة وتنهي على الاقل التشكيك السوري الدائم بالكيان اللبناني وتلغي التذكير بحق سورية بقسم من أرض لبنان. لكن الخطوة تفتح النقاش والجدل الفعلي على العلاقة ولا تقفله.
بداية، من المفيد تعيين العوامل والأسباب التي جعلت الحكم السوري يحسم في هذه الخطوة بعد تردد شديد، فخلافا للتهليل اللبناني حول الاستجابة السورية للمطلب اللبناني الداخلي، أتى قرار الحكم السوري استجابة الى الضغط الدولي المتواصل على سورية لإنجاز اقامة العلاقات. يأتي هذا الضغط في امتداد القرار الدولي الذي صدر عام 2004 تحت الرقم 1559 والذي قضى بخروج الجيش السوري من لبنان وإقامة هذه العلاقات. ورغم خروج الجيش السوري عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في ذلك العام، فإن مطلب اقامة العلاقات ظل على أولوية المطالب الدولية المشترطة تحقيقها ليمكن تخفيف الضغوط عن سورية وامكان الانفتاح عليها. وقد تزايدت هذه المطالب الدولية في الأشهر الاخيرة وترافقت مع السعي السوري الى فك العزلة المقامة حوله منذ ثلاث سنوات، وأتت المطالبات من حلفاء دوليين لسورية، كما اتت من خصومها. في حسابات المصالح، وجد الحكم السوري أن بامكانه «بيع» هذه العلاقات الدبلوماسية الى المجتمع الدولي «ليشتري» بها انفراجا من حوله وتخفيفا للعقوبات المفروضة عليه، وفكا لطوق العزلة الذي بات يتسبب بمشاكل اقتصادية وسياسية كبيرة لسورية. في المقابل، يجب عدم إنكار أهمية الدور اللبناني والمطالب التي رفعت والتجييش الشعبي الذي نظمته قوى مناهضة لسورية بعد اغتيال الرئيس الحريري ورفعها مطلب العلاقات، لكن من دون الوقوع في وهم أن هذه التحركات فرضت إقامة العلاقات، على غرار الوهم الذي أصاب هذه القوى بان «ثورة الارز» أجبرت سورية على الانسحاب. الاصل في الخطوتين كان ولايزال الضغط الدولي وقراره.
بعد الاتفاق الذي سيترجم بالتأكيد في وجود سفراء وسفارات، يطرح السؤال في الجوهر عن فاعلية هذه الخطوة وشروط جعلها فعلية وليست شكلية، وهو أمر سيطال التوجهات السورية تجاه لبنان، وبالتالي الجواب اللبناني عليها وما بالامكان تحويلها الى مدخل لحل الاشكالات. نبدأ من الحكم السوري الذي لم يشف بعد من عقدة الخروج من لبنان، وانتهاء الوصاية السياسية والامنية على البلد. لاتزال خطة الحكم السوري ممعنة في السعي لإعادة النفوذ السوري وصولا الى قيام حكم لبناني يوالي سورية، وهو أمر تفصح عنه التصريحات السورية الرسمية المتوالية حول الانتخابات النيابية القادمة التي سيحقق فيها أنصار سورية انتصارا وفق تصريحات وزير الخارجية السوري. لا تنهي اتفاقية العلاقات هذه الوجهة السورية في استعادة الهيمنة، ولن تكون السفارة الممر الذي ستسعى سورية من خلاله الى تكتيل القوى الموالية لها، فالحكم السوري يملك من الممرات الداخلية اللبنانية ما يكفي لجعل خطته مسنودة بقوى سياسية على المستوى الشعبي والسياسي. بل ليس مبالغة القول ان سورية ليست خارجا بالنسبة الى لبنان بل هي داخل متجذر في قلب البنية اللبنانية ومخترقة النسيج اللبناني، ما يعني أنها في قلب الداخل وأحيانا اكثر من قوى لبنانية صرف. والعلاقات الدبلوماسية لن تلغي النظرة السورية الى لبنان في وصفه المدى الحيوي لسورية، والورقة الاقليمية المهمة التي ملكتها سورية في السابق في صراعها مع إسرائيل، وتسعى اليوم لاستعادتها وتوظيفها في المفاوضات الإسرائيلية السورية. لذا نحن أمام «فيلم طويل» في العلاقات لن يعتبر الحكم السوري أن السفارة ستدعم او ستمنع من تحديد العلاقات مع القوى التي سترى سورية ان خطتها ستكون نافذة عبرها.
في الميدان اللبناني، ومع أهمية الاتفاق استقلاليا، وبعيدا عن «همروجة الانتصار»، يطرح إقامة العلاقات تحديات كبرى على اللبنانيين، كيانا ونظاما ومجتمعا، لجهة توظيف الخطوة إيجابا في إزالة الكثير من الالتباسات التي شابت العلاقات اللبنانية السورية في محطات الحكم المتوالية. تحتاج هذه الخطوة الى توافر أهلية لبنانية تعيد الاعتبار الى دور المصالح اللبنانية الداخلية بوصفها مدخلا في العلاقة، وذلك بما ينهي اولا تلك العصبوية اللبنانية تجاه الآخر العربي ومنه السوري، وتعيين ما يريده لبنان من سورية بما يخدم مصالحه من دون أن يمس بالمصالح القومية العامة.
المعضلة اللبنانية المركزية هي الانكشاف اللبناني المتوالي على الخارج ولجوء جميع القوى السياسية على الاستنجاد بالخارج لتحقيق مطالبه. يشكل هذا الانكشاف على الخارج مقترنا مع الانقسامات اللبنانية الداخلية الحادة وهشاشة الأهلية اللبنانية في رؤية المصالح اللبنانية أولا، كلها عوامل تجعل خطوة إقامة العلاقات أقرب ما تكون الى الانجاز الشكلي الذي تفيد منه سورية في تحسين صورتها الخارجية، من دون ان تتخلى عن خطتها واهدافها في لبنان، فيما سيعجز اللبنانيون عن توظيف الخطوة في تسييج الكيان اللبناني ومعه الاستقلال.
ستشكل إقامة العلاقات الدبلوماسية مرحلة جديدة من النزاع اللبناني السوري، فسيدخل البلدان في مفاوضات طويلة حول الاتفاقات الموقعة زمن الوصاية، والتي تحمل إجحافا للبنان، سيسعى الحكم السوري الى تكريس الامتيازات، وستعود لعبة الضغوط السورية على الحكم اللبناني عند تعثر الوصول الى أي اتفاق، وهو امر تعوده اللبنانيون منذ الاستقلال وكان يترجم دائما بإقفال الحدود والعقوبات متعددة الوجوه. لا يعني هذا التشكيك تقليلا من اهمية العلاقات الديلوماسية، انما للقول إنه تحدّ جديد في وجه اللبنانيين واهليتهم في توظيف دعم دولي متجدد لكيانهم واستقلالهم.
كاتب من لبنان