ما يحدث في لبنان

المصالحات تواريخ وحروب ووصايات

بول شاوول
المصالحات »شغالة« في مكان، ومُتَرَيِّثة في مكان آخر، ومتعثرة في أكثر من بقعة. ولا ندري حتى الآن ماذا تعني مصالحة فلان وفلان، وحزب وتيار، ورئيس ورئيس، سوى ان تقوم على »أفكار« وعلى تفاهمات أو تحالفات أو اتفاقات سياسية. هذه هي المصالحة بالمعنى السياسي لا الفولكلوري ولا القبلي ولا العائلي. فالمصالحات لا تعني المصافحات وتبويس الشوارب والذقون واللحى والأنوف، ثم يعود التبويس الى ما كان عليه: شتائم وسباباً واتهامات وتحريضاً وحروباً. ذلك لأنه لم يكن موضوعاً إلا لذلك: ربما مرحلة نقاهة قصيرة لا تلبث ان تنتهي. اليوم عندنا مصالحات، تقابلها شروط من هذا الفريق وتساهل من ذاك، أو عوائق من هذا »الزعيم« (ذي الزلاعيم)، وتسهيل من آخر، بسبب بسيط يتعدى الأسباب الشخصية أو الثأرية، الى ما هو سياسي فيفتح أحياناً على ما هو أبعد من الحدود. بمعنى آخر ليس حتى للمصالحة بين فريقين أو شخصين بُعد »محلي«، بل إقليمي وأبعد من إقليمي. وإذا عدنا بالذاكرة الى العقود الثلاثة الفائتة (العصر الذهبي للديموقراطية والحرية الموكولتين الى المخابرات والنظام البوليسي الرائع)، كانت المصالحات تتم أو لا تتم (أو حتى اللقاءات، مجرد اللقاءات) بفرمان من الوصايات؛ هي تقرر مَنْ يتصالح مع مَنْ ومَنْ يعادي مَنْ، ومنْ يحارب منْ، ومنْ يقتل مَنْ… ومَنْ يُخوِّن مَنْ ومَنْ يُمَجِّد مَنْ. إذاً لم تكن المصالحات بين اللبنانيين سوى »تكتيكات« ترسمها هذه الوصاية أو تلك.(تتمة المنشور ص 1)
وكلنا يعرف ان أي تفاهم (في صيغة مصالحة أو تحالف أو مجرد تقاطع بين الطوائف والمذاهب والأحزاب) كان ممنوعاً إذا لم تسمح به الوصاية. وأي خروج على القاعدة… يعني احياناً خروجاً من الحياة… الى الأبدية! أو أقٌله خروجاً الى سجن يتصالح فيه من أراد ان “يُصالِح” بدون الاذن الانتدابي، مع القضبان، والتعذيب والاهانة… أو إذا نجا بجلده فإلى المنفى! ونحن نعرف كم من الزعماء غادروا البلاد (بصيغة النفي) الى المنافي. بل وكلنا يعرف ان الوصايات بالجمع أو الوصاية بالمفرد أو الوصايتين ـ بصيغة المثنى… كانت تصالح الأضداد ـ الذين بينهم دم… ومجازر واختلافات ايديولوجية… أو فكرية بالقوة! أو بالترغيب أو بالترهيب. ومن يعصَ يعرف مصيره. بل أكثر: الوصاية أرغمت بطريقتها “السلمية” المعهودة بعض الأحزاب التي كانت تعاديها، على “مصالحتها”: تحت مظلة الطاعة. والعصا (وكاتم الصوت والاغتيال) لمن عصى! وهذا ما يفسّر نقل بعض الاحزاب والشخصيات “البارودة” من الكتف العرفاتية مثلاً الى الكتف البعثية الشقيقة، أو من الكتف الاسرائيلية الى كتف الوصاية… ويمكن في هذا المجال ان نستذكر أحزاباً عديدة، وشخصيات عديدة، رفعت السلاح ضد القوات السورية مثلاً، وخوّنت النظام السوري… وساوته أحياناً بالصهيونية (ويافطات المدن وكتابات الجدران كانت شاهدة على ذلك، إضافة الى التصريحات والمواقف المعادية للنظام البعثي السوري)، وكلنا يعرف ان شخصيات وزعامات سياسية كانت على علاقة تابعة لصدام حسين (النظام البعثي الآخر!) انتقلت بقدرة قادر (معروف) من تلك الضفة البعثية الصدامية الى الضفة البعثية السورية… لا سيما تلك التي اختارت البقاء في لبنان أو خارج السجن… أو خارج الأبدية وصارت من “أطوع” ما يكون في قبضة “الحلفاء الجدد” والأرباب الجدد. وبعض تلك “الشخصيات” الحزبية الصدامية السابقة (عندنا) وُضعت في مرتبة “الودائع” فرضاً في بعض الحكومات السابقة، أو في بعض اللوائح الانتخابية، في الجبل، وفي بيروت أو في البقاع… أو في بلاد العمالة الواسعة، إذ ان هؤلاء الذين امتهنوا العمالة لنظام صدام أو لإسرائيل أو لسواهما… لا يضيرهم أن يستمروا في امتهانهم العمالة للنظام الشقيق أو أي نظام آخر بما فيه إيران أو اسرائيل! فالعميل عميل سواء اشتغل عند الصهاينة أم عند أنظمة “الصمود والتصدي” (يا عين) أو الممانعة (يا عين!) أو دول “الطوق” (ألف يا عين ودقي دقي يا ربابة).
إذاً منطق المصالحات لم يكن على امتداد العقود الثلاثة سوى تعبير عن إرادة خارجية: يسمح به أو لا يسمح. يمنع أو لا يمنع! وإذا عرفنا ان كل الوصايات والانتدابات والاحتلالات التي مرَّت بلبنان (بما فيها بالطبع الاستعمار الفرنسي أو العثماني… لكي لا ننسى اسرائيل!)، لعب لعبة “فرّقْ تسُد”. علمونا إياها منذ طفولتنا. ونشأنا عليها… ورأينا أن كثيراً من اللبنانيين تبنوا هذه اللعبة الاستعمارية… لأهداف خاصة ومكاسب خاصة، ليستديم بذلك أي نفوذ خارجي. “فرّق تسُد” تؤدي أحياناً الى “صالِحْ تسُدّ” بالمردود ذاته، وبالنتيجة ذاتها انسحاباً الى الذرائع والدوافع الانتدابية (عربية كانت أم غير عربية) ذاتها. إنها المقابل التكتيكي الآخر، أو كما يقال “الوجه الآخر للعملة الواحدة”. وفي هذا المجال كلنا يستذكر انه حتى أيام النفوذ العرفاتي في لبنان، لم يشذ الواقع عن هذه “القوانين” (الوضعية): شق الصفوف وتأجيج الصراعات (وعندنا الطائفية فالمذهبية بإذنه تعالى!)، واختلاق “المسائل” الخلافية… وهذا ما حصل أيام النفوذ الشقيق: سلخ الحزب عن الحزب، والنقابة عن النقابة، والطائفة عن الطائفة، والمذهب عن المذهب، والمنطقة عن المنطقة، وفرض أجواء حروب توضع فيها الاطراف وجهاً وجهاً: “يا قاتل يا مقتول”. (اسرائيل لعبتها في الجبل بإتقان ربما مع بعض من يفترضون انهم في “الموقع المعادي معقول؟ ـ ألف معقول!)، وترتكب المجازر ويتم التهجير… وترسخ خطوط التماس بالنار والحديد… أو بالرعب التأسيسي لبلد يجب أن يُصوَّر بأنه مجموعة قتلة وطوائف تتحارب… تحتاج الى من يرشدها الى الطريق الصواب (باعتبار ان أهل الوصاية عباقرة وبلغوا بحمد القتل والترهيب والمجازر سن الرشد! فبوركت حكمتهم التاريخية التي لم تقد الى انتصار واحد رشيد على العدو الصهيوني المحتل! برافو!). وبهذا المعنى، وضمن هذه السقوف، ومن خلال تلك الأجواء القسرية الضاغطة، ما كان يسمح لأي طائفة أن تصالح أي طائفة أخرى، أو حتى أي حزب أن يلتقي آخر، أو منطقة تفتح على آخرى… خدمة للمنطق القائل: ان هؤلاء كلهم وحوش (أقصد اللبنانيين رواد التنوير والديوقراطية والعلم والابداع في المنطقة)، وعلى خطوط نارية متقابلة، وإذا تركوا بدون “وصاية” عسكرية وأمنية ومخابراتية (ألوف اللبنانيين قتلوا أو سجنوا أو خطفوا وما زالوا…)، فسيأكلون بعضهم: وهكذا تبقى الوصاية (أو الوصايات) جاثمة، بخطوط خضر من دول “الاستكبار” وأميركا واسرائيل خصوصاً إذا كان من المهمات الملقاة على هذه الوصاية أو تلك تصفية وجود المقاومة الفلسطينية وإحلال مقاومة أخرى تتحكم عبرها بقرار الحرب والسلم في الجنوب وفي لبنان: من “فتح لاند” العرفاتية الى “إيران ـ سوريا لاند” في الجنوب ومن المقاومة الوطنية العلمانية الى المقاومة ذات اللون المذهبي الواحد. ونظن ان احد أسباب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري محاولته وضع صيغ اتصال بين الطوائف بمعزل عن الوصاية… ونظن ان أحد أسباب استعداء جنبلاط… المصالحة في الجبل بين الموارنة والدروز… وكلنا يعرف ماذا كان رد النظام الأمني المشترك على هذه المصالحة التاريخية. ولأننا نعتقد ان محاولة الشهيد الحريري التأسيس للقاءات بين الطوائف الأساسية (بدون إذن الوصاية وبرغم إرادتها، وكذلك مصالحة الجبل، هما اللتان كانتا اللبنتين الاساسيتين لقيام ثورة الارز وخروج القوات السورية من لبنان: أي تحالف “الأضداد”، ولقاء الأفرقاء بسلمية ومحاورة. نعتقد هنا ان الخطيئة المميتة التي “ارتكبها” جنبلاط والرئيس الشهيد الحريري… دحض حجة الوصاية بأن الطوائف عاجزة عن اللقاء… والمصالحة لأنها في حالة حرب وثأر وتناقض وافتراق وطلاق… إلا بإذنها!
اليوم تتكرر هذه المحاولات وإن بصيغ أخرى، ليضاف الى الوصاية الشقيقة وصاية أخرى هي “الشقيقة” الفارسية أو الساسانية (ومن أين جاءت صفة الشقيقة!) التي ومن خلال اللعب على وتر الطائفية تمكنت من اجتذاب قيادات وأحزاب جرّت شرائحها خلفها بحجة ان إيران ستُحَصِّل لها حقوقها (كما كانت تقول بعض الأحزاب المسيحية عن سوريا أولاً وإسرائيل فيما بعد! فيا للتاريخ كيف يتكرر!)، وتمنحها “امتيازات” وعلى الأقل تنزع من هذه الطائفة أو تلك امتيازات… وتضيفها إليها: نتذكر هنا شعار “الامتيازات” أيام عرفات!). من دون ان نغفل “حرص” إيران على التحرير وكذلك سوريا التي ما زال يحتل العدو الصهيوني جولانها… من دون أن ننسى لواء الاسكندرون فيا لغيرة شقيق على شقيق الى درجة نسيان احتلال بلده… و”الممانعة” في بلد آخر! وأي تضحية أغلى! و”بالروح والدم نفديك يا لبنان”… حتى آخر لبناني… على مذبح الشقيقة القريبة أو الشقيقة الأبعدّ! وهكذا يُعيد التاريخ “دوراته” البهية اليوم، الذي هو “زمن المصالحات”: لكن بين من ومن؟ وهل تستوي مصالحة بين طرف معتدٍ (ولا اعتذار) وبين مُعتدَى عليه! بين طرف مرتهن يحمل شروط الارتهان اعتذار الآخر له… أي على قاعدة سياسية تقوم على احترام الآخر… وحصر الصراع بالسياسة لا بسلاح إيران أو سوريا في لبنان يشهر على اللبنانيين ويغزون به المدن (بيروت، الجبل، البقاع من دون أن ننسى الحركة الاجرامية العبسية في مخيم البارد). لكن أي مصالحة داخلية اليوم يمكن ان تشذ عن المصالحات السابقة؛ وأي وصاية لا تسعى حتى اللحظة الى اعتماد سياسة “فرّق تسُد”! إذاً بشروط الوصايتين تكون المصالحة أو لا تكون: مثلاً ونحن نقدر الحزن العميق الذي يشعر به الرئيس عمر كرامي إزاء مقتل شقيقه: رجل الدولة الكبير رشيد كرامي… فنحن في الوقت ذاته، لا نفهم لماذا قبل عمر كرامي عندما كُلِّفَ تأليف إحدى الحكومات بسمير جعجع وزيراً وصرّح “عفا الله عما مضى”… واليوم يُعيد تجريم جعجع كذريعة لعدم مصالحته: في الحالة الأولى أملت الوصاية (أو لسواها) على عمر كرامي ان يتصالح مع جعجع (بعد الطائف)، وفي الحالة الثانية يبدو ان الجهة ذاتها (أو ربما أكثر) تملي عليه من جديد حتى رفض لقاء جعجع: في الحالتين إذاً المصالحة أو عدمها من قرار خارجي. ولا يختلف الأمر بين ما يسمى المصالحة المسيحية. فلأن الوصايتين يريدون الصف المسيحي متشرذماً ومفككاً لتسهيل اختراقهم إياه واستيعابه، ها هو الوزير فرنجية أيضاً يريد المصالحة بشروطه (وهي شروط الخارج) مع جعجع؛ والأمر ينسحب على “ملك الهزائم” المتوّج بالغار الايراني… ميشال هللويا… كيرياليسون عون: فهو يرفض مصالحة جعجع لارتباط قراره بالخارج: والجامع بين كرامي وفرنجية (ملك البنغو) وعون واحد: إرادة الوصايتين عزل جعجع كقوة مقابلة لعون، وإضعافه وربما تمهيداً (من يدري)… لأمور أخطر. فالموضوع ليس الرئيس الجميل تحديداً هذه المرة، ولا بطرس حرب، بل سمير جعجع وعبره البطريرك صفير، ومحاولة ضرب “المرجعية المارونية” الواحدة لاستيعاب الصف المسيحي (هذا ما جرى بقوة السلاح بعد هزيمة عون العسكرية في حرب التحرير المزعومة ضد السوريين!). وهنا يمكن استشفاف انه إذا كانت الطائفة السنية مستهدفة من قبل الوصايتين عبر تشويهها بتهمة الارهاب المصدّر من هاتين الوصايتين، فإن بعض الرموز المارونية هي أيضاً على مرمى هذا الاستهداف لا سيما سمير جعجع، بعدما تمت “المصالحة” أو قيد الاتمام بين جنبلاط وأرسلان… وبين الحزب التقدمي وحزب الله وأمل. وهنا عودة الى سياسة العزل، ولا يشذ عن ذلك غزو بيروت، وضرب المناطق التي تدين بالولاء لتيار المستقبل… ولا التهديد ولا تصويب عون على “السنّة” وعلى السنيورة وعلى سعد حريري بإملاء من حليفيه. إذاً هناك محور يجب تحطيمه وهو محور السنّة الاستقلالية ومحور آخر هو جعجع… بانتظار محور آخر. وعلى هذا الاساس تبدو المصالحات أو عدمها في بعض جوانبها وشروطها تجديد القسمة بين اللبنانيين، وتصويرهم إما ارهابيين كما هي الحال مع السنّة الاستقلالية (الدرع القوية للحؤول دون عودة هذه الوصاية أو ترسيخ تلك على المستوى اللبناني الشامل). لكن ما يمكن الاشارة إليه ان الذين يطالبون باعتذارات ضمن صيغ معينة خصوصاً كرامي وفرنجية، لم نسمع انهم اعتذروا من الشعب اللبناني، ومن أهل مناطقهم على الأقل على الاضرار البالغة التي سببوها لهم بتواطؤاتهم مع كل ظواهر العنف والاغتيالات والتخريب والدمار التي أحدثتها حروب “حلفائهم” على لبنان وعلى بيئاتهم! فهنا الاعتذار أقوى! بل ولم نسمع اعتذاراً من فرنجية (صاحب المشروع الانمائي التربوي “البنغو”)، عما ارتكبته ميلشياه على امتداد الحروب وكلنا يعرفها! فالذي نوافذه من زجاج لا يحق له رشق الآخر بالحجارة. وأكثر: ومن بيته بلا نوافذ ولا أبواب… لا يحق له ان يرشق الآخر أيضاً بالحجارة!
ولكن في النهاية، وإذا كنا نعتقد ان هذه المصالحات مجرد هُدن، وطريقة لمنع الحروب والاعتداءات والغزوات واستخدام سلاح المقاومة ضد اللبنانيين، فمرحباً بها: فمصالحة ولو شكلية موقتة، أفضل من عداء يومي بكل أنواع الاسلحة المادية والمعنوية والتخريب والتدمير!
إذا كان الأمر كذلك فحبذا! ولكن حبذا أكثر لو يتم الحوار على أسس تحييد لبنان من التجاذبات، وترسيخ العمل الديموقراطي، واحترام المجتمع المدني، والتخلي عن الوصايات، والتوجه الى ارادة الشعب… باعتبار ان الانتخابات النيابية اقترب ميعادها! فهل تحصل؟ وإذا حصلت فهل يلتزم بتوع الوصايتين نتائجها؟
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى