الأزمة المالية.. والأزمة الليبرالية
عبدالله السيد ولد أباه
اعتبر بعض المحللين للأزمة المالية الراهنة، ان الدرس الأساسي منها هو عودة الدولة للتدخل بقوة في الشأن الاقتصادي، بما يمكن اعتباره مظهرا من مظاهر الانفصام القائم بين مساري السياسة والاقتصاد، وبالتالي بين المقتضيات السياسية للنظام الليبرالي ومقتضياته الاقتصادية.
ويذهب هؤلاء الى القول ان الحقل الاقتصادي خرج عن دائرة تحكم الشأن العمومي نتيجة لأثر حركية العولمة المتنامية، وليست إجراءات التدخل لإنقاذ المؤسسات والأسواق المالية المنهارة سوى دليل على هذه الحقيقة،من حيث كونها تمت خارج مجال التداول العمومي، وأدارها الخبراء والتكنوقراطيون وليس الساسة المذهولون العاجزون.
ويرى نجم المضاربة العالمية المليونير المتفلسف جورجيو سوروس ان الضحية الأولى في المعادلة الجديدة هي الديمقراطية التي لم تعد تعني شيئا في المجتمعات الرأسمالية الغربية، ما دامت الهياكل التمثيلية للأمة مغيبة عن جوهر القرار المتعلق بحياة الناس.
ليست هذه المرة الأولى التي يتم الحديث عن تعارض الديناميكيتين الرأسمالية والديمقراطية اللتين ارتبطتا تاريخيا ومفهوميا، وان انفصمتا في بعض السياقات واللحظات المؤقتة. فما يجمع الديناميكيتين على اختلاف منطقهما الداخلي هو صدورهما عن رحم الحداثة، من حيث هي تعبير عن فكرة الرشد الإنساني والوعي بالذات (الخروج من حالة القصور وتحكم السلط المعرفية والدينية حسب عبارة كانط المشهورة).
وإذا أخذنا تعريف عالم الاجتماع الفرنسي مارسل غوشيه للديمقراطية في كتابه الصادر مؤخرا عن مسار الديمقراطية الأوروبية بأنها «الصياغة المؤسسية السياسية لمعيار استقلال الفرد وتميزه»، امكننا القول ان الحريات الاقتصادية تتناغم ضرورة مع الحريات السياسية التي تعني حق الإنسان في التحكم في مصيره وحكم نفسه بنفسه.
إلا ان غوشيه يبين ان اختلال العلاقة بين مكونات منظومة التميز الإنساني التي هي: الدولة القومية وحقوق الإنسان والتاريخ هي السبب الدائم لازمات الديمقراطية الغربية،لا كل مكون ديناميكيته الخاصة، وينزع الى ان يكون المرتكز الكافي للكل الجماعي.
فالإيديولوجيات الرئيسية الثلاث التي عرفتها الساحة الغربية تمحورت كل واحدة منها حول احد عناصر المنظومة: التيار المحافظ حول السياسة بالدفاع عن أولوية الدولة بصفتها التعبير عن الإرادة الجماعية على حقوق الأفراد، والتيار الليبرالي حول حقوق الإنسان بصفتها المضمون المرجعي والقيمي للديمقراطية، والتيار الاشتراكي حول التاريخ بصفته أفق التحول والتقدم وتحكم الإنسان في مصيره.
وإذا كان القرن السابع عشر عصر تشكل الدولة القومية، فان القرن الثامن عشر كان عصر انبثاق وترسخ أفكار وقيم حقوق الإنسان، اما القرن التاسع عشر فكان قرن التاريخ.
وفي مطلع القرن العشرين اكتشفت الديمقراطية الغربية آلية الانتخاب والتمثيل لحل العلاقة الإشكالية بين المكونات الثلاثة، قبل ان تصوغ المعادلة الناجعة التي ضمنت بعد الحرب العالمية الثانية استقرار الحقل السياسي، من خلال: إعادة إصلاح السياسة بإعطاء مضمون اجتماعي لفكرة الأمة، وتجسيد حقوق الأفراد في سياسات اجتماعية ملموسة، والتحكم في حركة التاريخ من خلال مؤسسات سياسية وإدارية فاعلة.
كان هذا عصر دولة الرفاهية الراعية التي دخلت في أزمة حادة، تركت أثرها على الديمقراطية الغربية. ويلخص غوشيه الأزمة الراهنة في العناصر التالية:
– اكتمال مسار الدولة القومية الذي نجم عنه اختفاء البعد السياسي، باعتبار ان السياسة لم تعد بنية فوقية بل أرضية الفعل الجماعي، ومن هنا اختفت كل التصدعات والصراعات التي كانت تدفع الحركية السياسية.
– عودة الحوار حول حقوق الأفراد، في إطار الجدل الدائر حول أولوية هذه الحقوق الكونية على قيود السياسة وأطرها الشرعية الضيقة(سيادة الدول).
– تسارع وتيرة التوجه التاريخي للمجتمعات الغربية، مما نجم عنه اختفاء التمثلات الجماعية، التي كانت الإيديولوجيات التعبوية الكبرى تعبر عنها.
وبالعودة للازمة المالية العالمية في ضوء النموذج الهام الذي قدمه غوشيه، نرى ان تذبذب وعجز الحكومات عن حماية اقتصاديات بلدانها وانتشالها من المأزق الراهن يفسر بكون الدولة القومية الليبرالية دخلت في أزمة من أزمات مسارها التاريخي ناتجة عن اختلال العلاقة بين سمتها السياسية القاصرة (باعتبارها لم تعد متحكمة في القرار العمومي) ومرجعيتها القيمية الايديولوجية (من حيث كونها أصبحت عاجزة عن تجسيد التلاؤم مع دينامية حقوق الإنسان). نتج عن هذا الانفصام انفلات السيولة المالية من دوائر التحكم التقليدية في النظام الرأسمالي الذي ارتبط بنشأة ومسار الدولة القومية الليبرالية.
إنها ليست أزمة عابرة، لأنها تتعلق بجوهر الميكانيكا الديمقراطية، لكن الليبرالية الغربية اثبتت في الماضي قدراتها في التغلب على أزمات نموها التي هي القوة الدافعة لها.
كاتب من موريتانيا