الأزمة المالية العالمية

أين موقع إسرائيل في الأزمة؟

سمير كرم
لم يكن قد مضى شهر بأكمله على بداية الأزمة المالية (تسمية مهمة للأزمة الرأسمالية) حتى كانت »عصبة مكافحة التشهير« اليهودية الاميركية تعلن ـ في ما يشبه الصراخ : »لقد حدث ارتفاع هائل في نزعة العداء للسامية بين المتحاورين على شبكة الانترنت منذ ان انهارت أسواق المال«.
عصبة مكافحة التشهير هي أقدم منظمة يهودية أميركية … ومهمتها الاولى، التي لم تتغير منذ تأسيسها قبل نحو مئة عام، هي ملاحقة كل كلمة تقال بحق أي يهودي في العالم … وقد نجحت، في ربع القرن الأخير، في استصدار قوانين في عدد من دول الغرب بتجريم أي كلام ـ مجرد كلام ـ ضد اليهود في أي مكان في العالم. وكان أول من لبى مطلبها حكومة الولايات المتحدة الاميركية التي تبنت تعبير العصبة »جرائم الكراهية« في وصف أي انتقاد لليهود أو إسرائيل من أي زاوية كانت.
كيف عرفت العصبة بارتفاع منسوب العداء للسامية خلال أيام من الحوارات بين مستعملي شبكة الانترنت؟
من يستطيع أن يوجه سؤالا الى عصبة مكافحة التشهير عن مصدر معلوماتها عما يتبادله المتحاورون على شبكة الانترنت… من دون أن يجد نفسه متّهماً بالعداء للسامية، وربما بارتكاب جريمة كراهية يعاقب عليها بالسجن لمدة يمكن أن تصل الى عشر سنوات؟ المهم أن العصبة في بيانها هذا قالت »إن مئات من الكتابات المعادية للسامية تتعلق بمؤسسة الاخوة ليهمان وغيرها من المؤسسات التي تأثرت بأزمة قروض الإسكان قد طرحت للمناقشة بشأن كيفية التعامل مع الأزمة ورسائل اخرى مماثلة كثيرة تصل كل دقيقة. جميعها تهاجم اليهود عامةً، وبعضها يتهم اليهود بالسيطرة على الحكومة (الاميركية) وعلى تمويلها كجزء من النظام العالمي اليهودي، وبالتالي فإنها تلقي باللوم على اليهود بسبب اضطراب الأوضاع الاقتصادية«.
ولم يكن بيان العصبة كافياً لإطلاق صرختها عن موجة العداء للسامية، فعقد ابراهام فوكسمان المدير القومي للعصبة مؤتمرا صحافيا قال فيه: »اننا نعرف من التاريخ الحديث انه كلما حدث اتجاه للهبوط في الاقتصاد العالمي فسيكون هناك اتجاه للصعود في العداء للسامية وفي التعصب. وهذا ما نشهده الآن. إن الأكاذيب القديمة عن اليهود والمال موجودة دائما تحت السطح مباشرة. وكما شاهدنا في أحداث ١١/٩ وحيثما كان اضطراب وريبة في شأن الاقتصاد أو الأحداث العالمية يصبح اليهود كباش المحرقة، وتكتسب الأكاذيب القديمة القبيحة المعادية للسامية حياة جديدة«.
ينطوي منطق الذين يتهمون اليهود بأنهم وراء الازمة وأنهم سيخرجون منها الطرف الأكثر ربحا على مقدمة بسيطة للغاية: اليهود يسيطرون على الشؤون المالية العالمية … هم وحدهم القادرون على توقع حدوث ما حدث … لكنهم لا يفصحون.
وينطوي منطق الذين يرون أن اليهود لا يمكن أن يكونوا مسؤولين عن الازمة المالية على مقدمة بسيطة بالدرجة نفسها: كيف يمكن أن يوقع اليهود أنفسهم في مثل هذه الورطة، وهم يخسرون بوقوعها الكثير.
لكن المسألة في حقيقتها ليست بهذه البساطة … خاصة أن الازمة الراهنة هي أول أزمة في نوعها وفي درجة شدتها تقع عالميا في وجود »الدولة اليهودية«. والاسئلة المطروحة لا بد من أن تتضمن على الأقل سؤالا عن مدى تأثر الدولة اليهودية بالازمة. وهو سؤال ينشأ عنه بالضرورة: ومن سيدفع لإنقاذ إسرائيل من عواقبها. فقد اعتاد الجميع أن تدفع أميركا فاتورة الحساب الاسرائيلية عن أي شيء يتجاوز قدرات اسرائيل، أو هكذا تصوره.
والملاحظ أن المدافعين عن دور اليهود الاميركيين، وحجمه ومدى تأثيره، في الازمة المالية الراهنة هم الأحرص على نفي أوجه الشبه بينها وبين أزمة عام .١٩٢٩ وهؤلاء يقولون ان الاخوة ليهمان، الذين بدأت عند إفلاس مؤسستهم الازمة الراهنة وتلتها كل التداعيات الاخرى، لم يشاؤوا في أي وقت أن يلتزموا بالدور اليهودي الذي التزمته أسرة روتشلد في أزمة .١٩٢٩ وهذه ذريعة باطلة من أساسها لأنها شديدة الشبه بالغطاء الكثيف الذي استعان به الأثرياء اليهود إبان الحرب الأهلية الأميركية لإخفاء حقيقة وقوفهم الى جانب استمرار العبودية كما كان يدافع عنها الجنوب الزراعي في وجه حركة تحرير السود، وكما كان يدافع عنها الشمال الصناعي بقيادة ابراهام لنكولن. في ذلك الوقت (١٨٦٣ـ١٨٦٥) استطاع أثرياء اليهود من ملاك وسماسرة القطن في الجنوب أن يحافظوا على ثرواتهم وأن يتجنبوا غضب الشمال والرئيس لنكولن. وبالتالي أن يواصلوا دورهم في أميركا الموحدة بعد هزيمة الجنوب. وهنا تجدر الاشارة الى أن أسرة الاخوة ليهمان تنتمي الى أصحاب مزارع القطن وسماسرته اليهود. ما يعني انهم عرفوا ـ بعد وقوفهم في صف الجنوب المهزوم ـ كيف يحافظون على مركزهم المالي على مدى قرن ونصف.
ويتركز دفاع اليهود لإسقاط تهمة المسؤولية عن الازمة المالية الراهنة على التقليل من شأنها مقارنة بما حدث عام .١٩٢٩ وفي هذا كتبت صحيفة جيروزاليم بوست مقالا في بدايات الازمة (٢٨/٩/٢٠٠٨) تحت عنوان: ٢٠٠٨ ليست .١٩٢٩ أكدت فيه بلهجة من يعرف اليقين: »لا. ان ما حدث في عام ١٩٢٩ لن يتكرر. في يوم الاثنين الأسود ٢٨ تشرين الاول/اكتوبر ١٩٢٩ هبطت أسهم سوق الأوراق المالية في نيويورك بنسبة ١٣ بالمئة ثم في اليوم التالي بنسبة ١٢ بالمئة، وبلغت الخسائر في ذلك الاسبوع ٣٠ مليار دولار، وهو عشرة أمثال الميزانية الاتحادية آنذاك. وعندما انتهى التدهور في عام ١٩٣٢ كانت الأسهم قد خفضت تسعين بالمئة من قيمتها القصوى. هذه ليست ٢٠٠٨«.
مع ذلك فإن كاتب هذا المقال لم يستطع أن يحجب عواطفه. في قرب نهايته قال متسائلا: »كيف يمكن لبنوك استثمارية عظمى مثل الاخوة ليهمان، الذي أسسه الاخوة اليهود هنري وايمانويل وماير ليهمان في عام ١٨٥٠ ان ينهار فجأة هكذا. انه لأمر يثير الفزع. أما إجابته عن سؤاله: »لماذا تقع مثل هذه العبقريات المالية في الخطأ؟« فإنه لم يجد سوى هذه الإجابة: »بالتحديد بسبب عبقريتهم. لقد أقاموا أصولا مالية معقدة ليس بالمستطاع فهمها إلا لقلة قليلة«. يبقى فقط ان نشير الى ان كاتب المقال هو شلومو مايتال، وهو يشغل منصب المدير الاكاديمي لمؤسسة تي.اي. ام. في تل أبيب. ولا يجد المرء في أسئلته ولا أجوبته حدا أدنى من التناول الاكاديمي (…)
الذين يرون الامور من منظور معاكس وان اليهود هم جناة في الازمة وليسوا ضحايا يقولون »ان اليهود يزدادون ثراء بينما غيرهم يزدادون فقرا. هذا هو بالضبط ما يحدث مع الأزمة المالية … إن الاكتشاف اليهودي الكبير هو انه اذا أعطت البنوك قروضا لأناس ليس بمقدورهم أن يسددوها فإن هذا يسبب بالتأكيد كارثة اقتصادية لأميركا. عندئذ يتعين على دافعي الضرائب الأميركيين أن يساندوا هذه القروض وباستطاعة رجال البنوك الصهاينة أن يخرجوا بأنصبتهم من أرباح هذه القروض. بل الواقع ان باستطاعة رجال البنوك اليهود أن يقرضوا مالا لا وجود له أصلا حتى يتمكنوا من الحصول على أرباحهم وأن يبيعوا دولارات خيالية للناس الفقراء. (موقع جويش واتش على شبكة الانترنت ـ ٢٠٠٨١٠١).
وأما عن الفرق بين كارثة ١٩٢٩ وكارثة ٢٠٠٨ فإنه لا يعدو في نظر هؤلاء أن يهود ٢٠٠٨ يعون جيدا درس ١٩٢٩ … وانهم لن يسمحوا لغير اليهود بأن يتكلموا صراحة عن دور اليهود وأرباحهم من وراء الكارثة الجديدة.
أين يكون موقع إسرائيل في هذه العقدة المتشابكة للأزمة؟
في البداية، ولفترة قصيرة، التزمت اسرائيل موقفا يدعي القوة والثبات. ان الازمة المالية لا تهزها، وكل التوقعات عن تدهور الاقتصادات القائمة على التكنولوجيا المتقدمة ـ شأن اقتصاد اسرائيل ـ لن يكون لها أثر في اسرائيل. الاقتصاد قوي ولا يحتاج الى إجراءات استثنائية من أي نوع.
لكن الموقف الاسرائيلي لم يلبث أن تغير. وقعت تأثيرات الأزمة على اسرائيل، فقد هبط المؤشر المالي بنسبة ٩,٤ بالمئة خلال يومين من بداية تشرين /اكتوبر، وانحدرت قيمة الأسهم العقارية بنسبة ١١ بالمئة، وخسرت تل أبيب ما نسبته ٥,٥ بالمئة من قيمة سنداتها المالية. واضطرت الحكومة الى خفض سعر الفائدة بمقدار ٥٠ بنطا ليصبح ٣,٧٥ بالمئة استجابة لما وصفته بعدم اليقين المتزايد في الاسواق المالية العالمية.
وفي أعقاب ذلك أعلن رتشارد غاسو ـ وهو محلل مالي معروف في اسرائيل ـ انه »مع دخول الولايات المتحدة في حالة ركود وكذلك أوروبا، لم يعد هناك أي شك في أن الازمة ستطالنا، فلسنا جزيرة منعزلة«. لكنه لم ينه تصريحه عند هذا الحد انما أضاف »لكن وضعنا ليس بمثل سوء الوضع الاميركي«. وأكدت أسبوعية جويش ويك اليهودية التي تصدر في نيويورك أن الازمة تضغط بشدة على بعض من أقوى رجال الاعمال الاسرائيليين، لأنهم جميعا يستثمرون في العقارات.
ولعل التصريح الأقرب الى الصراحة كان تصريح النائب العمالي في الكنيست افيشاي برافرمان: »بالطبع حين تواجه أميركا أسوأ أزمة مالية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ويكون الموقف مماثلا في أوروبا، فإن إسرائيل ستواجه ركودا .. إغلاق مصانع ومؤسسات هو أمر متوقع. اننا بالفعل بحاجة الى حكومة أكثر كفاءة في أدائها. حكومة تحكم فعلا«.
إن السبب الحقيقي لارتفاع منسوب القلق بين يهود أميركا وإسرائيل معا هو تناقض التحليلات الصادرة من داخل أميركا، بما فيها تحليلات الخبراء اليهود التي تقول تارة إن الرأسمالية ماتت وتارة اخرى إن الرأسمالية حية وستعيش. إن أميركا ستجتاز الازمة وتنهض من جديد. لا، أميركا في ورطة كبيرة وتحتاج الى نظام جديد … لا لقد وصلنا الى القاع ولن يكون هناك ما هو أسوأ.
[[[
حينما تكون أميركا في مثل حالتها الراهنة تخشى المنظمات اليهودية الاميركية من أن تسارع الى طلب العون… خاصة لإسرائيل، لان معنى هذا أن المعادين للسامية محقون في قولهم إن اليهود الأميركيين يضعون »اسرائيل اولا«. وفي هذه الحالة من الاضطراب من يدري كيف يمكن أن يكون رد الفعل في الشارع الأميركي (…)
اليهود في أميركا وفي إسرائيل لا يقتربون من مسألة سوء توزيع الثروات كسبب للأزمة الراهنة.
ما أشبه موقف يهود أميركا من الأزمة الراهنة اليوم بموقفهم في زمن الحرب الأهلية الأميركية قبل ١٣٥ عاما… موقف لا يكاد الشعب الأميركي في مجموعه يعرف عنه شيئا. بالأحرى إن غالبيته الساحقة تعتقد ـ في ضوء بيانات المنظمات اليهودية ـ ان كان التزاما بالتحرر وضد العبودية بصرف النظر عن المصالح المباشرة لرأس المال اليهودي. أي على بعد آلاف السنين الضوئية من حقيقة ما كان.
([) كاتب سياسي عربي من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى