صفحات أخرى

عقدة بادر ماينهوف فيلم آخر مثير للجدل لأولي أيدل: جنـون القتـل وجنـون الحريـة

زياد الخزاعي
مثلما هي الزوبعة التي فجّرتها الأسلوبية الدرامية، التي قدّمت شخصيّتي هتلر في »السقوط« لأوليفر هيرشبيغل وعميل الـ»ستاسي« غارد فايزلر في »حيوات الآخرين« لفلورين هاينكيل فون دونرسمارك، وقسمت الرأي العام الألماني؛ يأتي اليوم دور منظمة »بادر ماينهوف«، التي روّعت البلاد في الستينيات والسبعينيات الفائتة. يثير الاقتباس السينمائي الباهر، الذي كتبه بيرند آيشنغير (كتب »حيوات الآخرين« أيضاً)، عن رواية الصحفي ستيفان آوست، رئيس تحرير مجلة »شبيغل« بعنوان »عقدة بادر ماينهوف« وأخرجه أولي أيدل، حفيظة الجميع. فالتاريخ الرسمي، منذ تصفيتهم المثيرة للجدل، لا يزال يعتبرهم شلّة من القتلة، وأهالي الضحايا يرون أنهم مجموعة من العصابيين، الذين اختاروا أفراداً من عائلاتهم للثأر من نظام عصيّ على التفكّك، ومحميّ بالقوة الأميركية المحتلة. فيما بقي هواة كثيرون للانقلابات المخبوءة والحالمين بالثورات، متمسّكين بالولاء إلى الخلية الأكثر ثورية في أوروبا، التي جعلت خطاب الدم والتصفيات شعاراً إيديولوجياً، سعياً إلى الانتقام من »فاسدي الامبريالية«، بحسب التنظير الذي وضعته غودرون إينسلين، القطب الثالث في الجيش الأحمر الألماني.
لا يُنكر أن المشاهد الأجنبي لـ»عقدة بادر ماينهوف« (المشاركة الألمانية في جوائز »أوسكار« المقبلة)، سيجد نفسه متورطاً في موقف ملتبس، بين إدانة الإرهاب الذي غزا الشاشة على مدى ١٥٢ دقيقة (وهو أمر لا بدّ منه)، والتأني في رفض خطابات المجموعة المؤدلجة لنشاطاتهم العسكرية، وحيواتهم التي انفتحت على هيبية الستينيات، وطلقهم الحياتي الذي أوصلهم إلى أوسع درجات التفتّح الجنسي والجسدي، التي تحتاج إلى معرفة جدّية بتفاصيل المحيط والتربية التي شبّوا عليها. بيد أن الحاسم في عمل إيدل ـ آيشنغير لا يكمن في سرد الوقائع بحذافيرها، وتوسّل دقتها (وهو أمر مثير للتقدير)، بل في تزامن إنتاجه وعرضه في حقبة حوّل فيها الإرهاب لباسه وخطابه ووجهته، كأنه يرصد تحوّلاته كفعل تنديد وتمرّد وحراك جماعي حاسم وتمظهر للعنف السياسي وإشاعة الفوضى، وانتهائه اليوم كمواجهة ربانية بين أطراف تخلّت عن عقائدياتها الوضعية، وتمترست بالديني الذي قوّم قوته شبه العسكرية بأنظمة حكم توتاليتارية وإثنية وطائفية، بدلاً من منظمات وخلايا سياسية تقليدية، كالجيشين الأحمرين الألماني والياباني والألوية الحمراء الإيطالية و»أيتا« الباسكية و»فارك« الكولومبية والجيش الجمهوري الايرلندي و»الدرب الساطع« البيروفية، من غير أن نسرد أسماء المنظمات العربية والإسلامية وصفاتها الكثيرة.
تشكيك
يُحرّض »عقدة بادر ماينهوف«، كما »السقوط« وما مسّه من قناعات مسبقة حول سير القائد والطاغية والديكتاتور، مُشاهده على التشكيك بتقليدية التعريفات المسيّسة في ما يتعلق بمفهوم »الحركة الإرهابية«، التي كثيراً ما عصيت على فكّ نفسها عن تعابير المقاومة والطهارة النضال والتحرّر والعدالة. ولئن تمّ اعتبار »منظمة الجيش الأحمر« (عصابة »بادر ماينهوف« في التسمية الرسمية) إرهابية، فإن ربطها بحركات مقابلة في فلسطين وإيطاليا وبقاع أخرى أصبح يسيراً، في حين أن الإجماع على إدانتها بسبب عنفها، حتى وإن مورس العنف ضد مغتصب أرض (كما إسرائيل) أو عدوان جامح بدمويته (حرب فيتنام)، يجب أن يتحوّل إلى قانون، يحسب الولاء والطاعة، ويعاقب على الإخلال بأوزانها وقوة التمسك بها. يربط صاحب »كريستينا أف« (،١٩٨١ المفعم بالقسوة الشخصية لبطلته اليافعة) و»المخرج الأخير إلى بروكلين« (،١٩٨٩ حول العنف الاجتماعي الذي يحيل شخصيات نيويوركية إلى حطام بتأويلات أخلاقية معتمدة على مقاطع إنجيلية)، العقدة الأولى في تأسيس المجموعة إلى التأثير الوافد، وهو ثقافي في الدرجة الأولى، إذ يكون سريان لوثة انتفاضة أيار ١٩٦٨ الفرنسية عارماً بين طلاب جامعات برلين الغربية وبقاع الفيديرالية، بعد عام على انطلاق مفاهيمها التحررية. تقوى الثورة المضمرة لاحقاً، مع زيارة شاه إيران رضا بهلوي إلى العاصمة المقسّمة في حزيران ،١٩٦٧ التي أثارت احتجاجات ومواجهات دامية مع عناصر »سافاك« والشرطة الألمانية، التي تقتل الطالب بينو أونسورغ، فيكون اغتياله بذرة تكوين الخلية الأولى لعصبة أنديرياس بادر وعشيقته إينسلين، و»شقاوتهما الثورية« وارتباكاتها الصبيانية، التي تقودهما إلى إحراق مجمّعات تجارية، متأثرين برودي دوتشكه، »دانتون برلين المفوّه« ونبي »حركة الثاني من حزيران« الطالبية ذات الطابع الفوضوي الرافض للعنف، قبل تعرّضه لمحاولة اغتيال فاشلة على يدي طالب يميني. هذه التفصيلة التمهيدية يعتني بها الثنائي إيدل ـ آيشنغير كثيراً، لأنها الإجابة عن الدوافع التي شكّلت المنظّمة، وما تبعها من تعقيد في خطابها العسكري.
صرخة صامتة
لم تعد صرخة الشاعر آرثور رامبو: »ينبغي تغيير الحياة. هذه الحياة الرتيبة التقليدية لم تعد تناسبنا. نريد شيئا آخر غيرها«، التي حرّضت طلبة باريس، إيماءة إيديولوجية لعشرات من نظرائهم الألمان، الذين وجدوا أنفسهم أعضاء مسلحين في عصبة بادر، ومن ثم مُطَارَدين، ولاحقاً مقتولين أو معتقلين. من هنا، ينتصر »عقدة بادر ماينهوف«، بذكاء حرفي، إلى المطابقة السينمائية في أكثر صُوَرها دقة. تتداخل في سيرة المجموعة، بتضارب مجنون، الشهوة والسجال مع التنظير واختبار الشجاعات، والعنف والعزم العسكري مع التآخي والصداقات المفتوحة على أقصى درجات الخَبْل الاجتماعي. المناورات والعقل التنظيمي مع السذاجات الفردية التي تُسيل دماء ضائعة المعنى والثمن، تكون كلّها متوفّرة في توليفة سينمائية باهرة. لكنها لا تجيب عن الأسئلة الجوهرية في المقاطع الختامية للعصبة، وتحديداً ما تمّ في سجن ستامهايم ليلة ١٦/ ١٧ تشرين الأول ،١٩٧٧ عندما نُفذّت مجزرة صامتة بحق بادر وإينسلين ورايسبه، إثر انهيار عملية اختطاف طائرة »لوفتهانزا« في مقديشو، واكتشاف جثثهم داخل زنزاناتهم. يتماشى الفيلم في هذه المقاطع الوحشية مع البناء الذي أقام عليه الكاتب آيشنغير نهاية »السقوط«، إذ تغمط الكاميرا رؤية ما اذا ختم هتلر حياته برصاصة، أو استعان بمرافقه. هنا، يقوم المونتير المحترف ألكساندر بيرنير بتقسيم الفقرات بحسب الميتات وغرفها. فالتعريف بالوضعيات جاء حاسماً للمطابقة التاريخية، وفي الوقت نفسه رمي تأويل الميتات في حضن مشاهدها الفطن: انتحارات، مثلما ادّعت الشرطة وتحقيقاتها؛ أو تصفيات، مثلما أصرّ من بقي حيّاً من مناصريهم.
تُضاهي السردية المحكمة في »عقدة بادر ماينهوف«، وهي المفخرة السينمائية، نظيرتها في »حيوات الآخرين«. فكما فعل فون دونرسمارك في تقديم العميل فايزلر وهو يشرح أساليبه الشيطانية في التحقيق مع مناوئي الحكم التوتاليتاري، يعمد إيدل إلى إعطاء الأولوية للشخصية الأكثر ثقلاً وأعقد تركيباً بين الأربعة: الصحافية وكاتبة العمود الموهوبة أولريكه ماينهوف (أداء قوي لمارتينا غيديك)، التي تتخلّى لاحقاً عن تضامنها العائلي وطبقيتها وطفلتيها، للالتحاق بالثنائي بادر/ إينسلين، مؤمنة بأن الفوضوية خيار حاسم. لكنها تقع في براثن العنف المسلّح، وتذهب إلى نهاية المطاف، والحبل الذي لفّته حول عنقها ذات ليلة في أيار .١٩٧٦ وضع إيدل هذه المرأة القوية الشكيمة في مواجهة الشخصية النارية الأخرى إينسلين (أداء محكم ليوهانا فوكاليك)، وحاك مشهدياتها منذ الوله الإيديولوجي المتبادل بينهما إلى نهاية علاقتهما، التي امتلأت بالشكوك والخصام والاسترهاب المتبادل. طول مدّة الفيلم، لم يُظهِر إيدل بطلته في عمليات عسكرية، بل ككيان تنظيري يشكو رقابة رفاقه وإصرارهم على تنقيح خطاباتها ومداخلاتها في المحاكمة الشهيرة. وبينما بقي بادر شخصاً متطيّراً في أفعاله وأحكامه وعنفه، على الرغم من أناقته العفوية، غرقت ماينهوف في عزلتها ومخاوفها. بحسب الدولة والنظام، هي نموذج حرفي للمثقف الخائن، والكاتبة التي زلّت في اعتبارات طبقتها، والأم الضالّة في عرف عائلتها. هذا كلّه لا يشفع لها تورّطها في موت ٤٧ ضحية.
يؤكّد إيدل (مواليد العام .١٩٤٧ درس السينما في جامعة ميونيخ، وأخرج أول اعماله في العام .١٩٧١ شكّل التلفزيون وإنتاجاته همّاً إبداعياً لهذا المخرج المُقلّ في أفلامه السينمائية) أن »نهاية الستينيات محمّلة بالعواطف، التي أردتُ استعادتها في المقاطع الأولى من الفيلم. اذ أعتبر نفسي ثورياً رومانسياً، كجميع الشباب آنذاك. كنتُ أعتقد أني غير قابل للشفاء. تابعتُ بدايات المنظمة باهتمام كبير. من المدهش رؤية شباب يصلون إلى هذا الحدّ من التطرّف. الهزّة والخيبة الكبيرة لم تحدثا حتى العام ،١٩٧٢ عندما انفجرت أول القنابل التي جرحت وقتلت كثيرين«. تتبدّى الرومانسية بجلاء في »عقدة بادر ماينهوف« بدءاً من شواطئ العراة في الشمال الألماني، وصولاً إلى معاقل المنظمات الفلسطينية في الأردن (صُوّرت هذه المشاهد في المغرب، وبدت مفتعلة، أشخاصا وبيئة ولهجة وتوثيقاً)، ومروراً بالشقق السرية وسرقات المصارف، ولحظات الاعتقالات الشاملة، وتصفيات رؤوس قادة الجيلين الثاني والثالث الأكثر وحشيةً من الأُوَل، كبرجيت موهنهاوبت، والإضرابات عن الطعام، واغتيالات المدّعي العام سيغفريد بوباك ومساعديه وحرّاسه (في مشهد مركزي مغرق بعنفه، صوّره راينير كلاوسمان بحنكة مطابقة لمنجزه في »السقوط«، وفيلم مواطنه من أصل تركي فاتح آكين في »حافة الجنة«)، والقاضي غورغن بونتو، وأخيراً القطب الصناعي هانز مارتن شيلر، إذ يُــختم الفـيلم بصوت الرصاص الذي يخترق جسده على خلفية أغنية بلوز أميركية.
(لندن)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى