الأزمة المالية العالمية

انهيار السمعة

بلال خبيز
إن التفاوت بين أهمية السلع وضروراتها وأسعارها سوف يؤدي في القريب العاجل إلى انهيارات كبيرة لبعض الأسماء اللامعة في عالم الصناعة والتجارة على حد سواء.
يستشري بين المتابعين للأزمة المالية الراهنة التي تعصف بالعالم وصف هذه الأزمة من حيث حدتها وخطورتها بأزمة العام 1929. أو ما سمي يومذاك بالركود الكبير، حين لم تعد المخازن والمستودعات تكفي لتخزين البضائع الكاسدة، وأصبحت بدلات التخزين تتعاظم وتفوق الأرباح في ظل الكساد، وكان من شأن هذه الأزمة أن جعلت مبدأ الصناعي الكبير هنري فورد مبدأً عاماً للصناعات في جميع أنحاء العالم. يومها اعتبر هنري فورد أن تحسين مستوى دخول العمال يسمح لهم باقتناء السلع التي تنتجها المصانع، والتي يمكن الاستغناء عنها أو العيش من دون استعمالها.
سرعان ما تحولت سياسة هنري فورد الاقتصادية هذه عنواناً لعهد رأسمالي جديد، تزعمته الولايات المتحدة الأميركية واستمر حتى يومنا هذا، أقله في الولايات المتحدة الأميركية، ساري المفعول. يومذاك أيضاً كانت الولايات المتحدة الأميركية هي موطن الحجر الأول الذي تساقط من عمارة الاقتصاد القديم، ذلك أن ما كان غائباً عن تلك العمارة يتصل اتصالاً مباشراً بأهمية المستهلك ووزنه في المعادلة الاقتصادية، ومنذ ذلك التحول أصبح بالإمكان التأريخ لبدايات صناعة المستهلك بوصفه الركيزة الأساسية لأي اقتصاد حديث.
الأزمة الحالية بدأت أيضاً في الولايات المتحدة، وفي التحليل الأخير لمسارها، تبدو مشابهة للأزمة السابقة في بعض الوجوه. ثمة سلع مستجدة طرحت في السوق، وثمة مستهلكون صنعتهم سياسات التسليف الأميركية لهذه السلعة، لكن حرية السوق المطلقة جعلت هذه السلع بعيداً عن متناول الكثيرين، مما جعل الركود أمراً لا راد له، والحق أن المدقق في ما جرى في الأسابيع الأخيرة يدرك أن سياسة التسليف التي اعتمدتها المصارف الأميركية، وحضت عليها أعلى دوائر القرار النقدي في الولايات المتحدة جعلت من حجم الفوائد على القروض تصل إلى أرقام فلكية. فتلك المبالغ المتراكمة الناتجة عن الفوائد المالية لم تكن تجد ما يعادلها في الأصول التي قام الاقتراض على أساس قيمتها الفعلية، ويمكن القول إن الخسارات التي شهدتها الأسواق المالية لم تتجاوز حدود الأرباح المحققة من فوائد القروض، وبكلام آخر، كانت الثروات تتراكم والأرباح تتزايد من تلقاء نفسها، ومع تراكم الأرباح بات مفهوماً أن ترتفع أسعار العقارات التي كانت الهدف الأول للمسلفين، مما جعلها بعد حين أبعد منالاً من قدرة معظم الأميركيين على تحمل نفقاتها.
ما إن أخذت الأزمة طريقها الفعلي نحو التبلور، حتى بات بديهياً أن يعاد تنظيم السوق المالية وأسواق الأسهم وفق قواعد جديدة. والأرجح أن القواعد الجديدة التي ستشهد النور في المقبل من الأيام تتصل اتصالاً مباشراً بفصل السوق المالية وأسواق الأسهم عن سلة الاستهلاك العادية، بحيث لا تعود الحاجات الأساسية المرتبطة بعيش المواطنين وأمنهم الاقتصادي والاجتماعي مرتبطة ارتباطاً مباشراً بسوق الأسهم الرجراجة.
وهذا يفترض في مطلق الأحوال أن يعاد تقييم الأسهم وفق جدواها الفعلية وبالتالي قيمتها الحقيقية، فلا ترتفع أسعار الأسهم بناء على إقبال المشترين بل بناء على أهمية المنتوج وضرورته وجدواه، مما يعني أن السياسات الاقتصادية المتوقعة على المدى القريب ستعيد تنظيم السوق المالية على نحو يتصل بحاجات المستهلك المباشرة.
لا شك أن مثل هذا التنظيم يواجه معوقات عدة، وقد يكون أبرز هذه المعوقات هو حجم الكتلة النقدية المتبخرة في الأسابيع الماضية، فهذه الكتلة التي تبخرت، وتلك المرشحة للتبخر، رغم أنها صانعة ثروات ومقامات وسلطات، فإنها تتصل مباشرة بالنظام النقدي، لكن اتصالها بالسلعة المستهلكة ما زال حتى الآن موارباً وغير مباشر. إذ ليس ثمة من يمنع أيا كان أن يقتني جهاز تسجيل من ماركة غير معروفة. في هذه الحال يتدنى سعر المنتوج بسبب افتقار الماركة للسمعة الحسنة، مما يعني أن المستهلك حين يشتري سلعة من مصدر موثوق ومعروف وحسن السمعة، فإنه يدفع ثمن السلعة وثمن السمعة في آن واحد. فضلاً عن نظام الكفالات التي تجعل المستهلك أكثر ثقة بالسلعة التي يشتريها، لكنه من جهة أخرى يدفع ثمنها مقدماً عبر ارتفاع سعر السلعة المكفولة بحسب قيمة كفالتها وسمعة الشركة الضامنة. وحيث إن الأمر لا يبدو شديد التأثير في صناعات ومنتوجات معينة، ويبدو بالغ الأهمية في منتوجات أخرى، فإن التفاوت بين أهمية السلع وضروراتها وأسعارها سوف يؤدي في القريب العاجل إلى انهيارات كبيرة لبعض الأسماء اللامعة في عالم الصناعة والتجارة على حد سواء، مما يضع شطراً واسعاً من الأعمال التي كانت حتى الأمس القريب تدرّ أرباحاً خيالية على حافة الانهيار، وهذا مما يعيد خلط الانقسامات الاجتماعية والطبقية على نحو غير مسبوق، وقد ينتج عنه صراعات اجتماعية شديدة التعقيد، ولا يندر في بعض الأحيان أن تكون عنيفة ودموية حتى في أكثر البلاد تقدماً وتحضراً ورسوخاً في الديمقراطية.

* كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى