تأملات يساري عربي في الأزمة المالية للرأسمال المعولم
كريم مروة
لست إقتصادياً. ولست ضليعاً، من حيث المعرفة العلمية، بعلم الإقتصاد. ولست ممن يملكون ثروة مالية مودعة في مصرف، ولا ممن يملكون عقاراً في منطقة من مناطق لبنان، بما في ذلك في قريتي الجنوبية التي ولدت فيها، حاريص. ثروتي هي التي تأتيني من جهدي في الكتابة ومن جهد زوجتي في التعليم.
علاقتي المحدودة هذه بالإقتصاد وبعلم الإقتصاد لا تعفيني، وفق ما تعلمت من مرجعيتي الماركسية، في أقوال ماركس بالذات وفي أقوال لينين أيضاً، من ضرورة الإلمام بالحد الأدنى من المعرفة بالشأن الإقتصادي. فالإقتصاد هو عصب الحياة في كل زمان وفي كل مكان. ولا يستطيع المواطن، في أي بلد، إلا أن يجتهد ليعرف أكبر قدر ممكن من الإقتصاد في مجالاته كافة، إذا كان يريد أن يعرف كيف يعيش، وفي أية شروط، وإذا كان يعتبر نفسه معنياً بالنضال مع سواه من أبناء بلده، ومن أبناء طبقته الإجتماعية، لتوفير الشروط السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي تجعل حياته أفضل وأرقى وأكثر تطابقاً مع حاجاته. بهذا المعنى لا يستطيع أحد، ولا يحق له، أن ينأى بنفسه عن الإهتمام بالإقتصاد في بلده، وبالإقتصاد في العالم، على حد سواء. إذ هو، شاء أم أبى، لن يكون بمنأى عما تؤول إليه الأوضاع الإقتصادية في حركتها المالية خصوصاً، في بلده وفي العالم. وغالباً ما تكون نتائج المترتبة على هذه الأوضاع سلبية بالنسبة إلى ذوي الدخل المحدود، ونادراً ما تكون إيجابية، وفي شكل محدود.
ولأنني أنتمي إلى اليسار منذ شبابي الباكر، ولأنني تسلمت مسؤوليات أساسية في حزب يساري، هو الحزب الشيوعي اللبناني، على امتداد أربعين عاماً من عمري، الذي يسير في اتجاه الحلقة الأخيرة منه، فقد كنت معنياً على الدوام بالإهتمام بالإقتصاد، بالقدر الضروري والممكن، معنياً، في شكل خاص، بتعزيز الدائرة الإقتصادية في حزبنا، في صيغتيها، العلمية والبحثية منها، والإنتاجية، في الآن ذاته. وهكذا وجدت نفسي مهموماً، منذ بدايات حياتي، بالشأن الإقتصادي في بلادي، كجزء من اهتمامي بالشأن العام. ورغم أنني حاولت، وما زلت أحاول، أن أقرأ ما يتصل بالشأن الإقتصادي في لبنان وفي العالم العربي وفي العالم – وقد قرأت كثيراً- فإن تكويني الأكاديمي المحدود جعل معرفتي بالإقتصاد في الحدود الأولية، الضرورية، للمسؤول السياسي.
وأعترف بأن قراءتي لسِفر ماركس الأساسي “رأس المال” لم تكن كاملة. بل هي اقتصرت على فصول أساسية منه، لا سيما ما يتصل بالقيمة، وبفائض القيمة (القيمة الزائدة)، وبالأجور والأسعار والأرباح، وبالتراكم الرأسمالي الذي كان يرى فيه ماركس الموضوع الأساسي في الصراع والتنافس بين الرأسمال وأربابه، من جهة، وبين مشروعه هو، أي ماركس، من جهة ثانية. وكان يتم هذان الصراع والتنافس، في مشروع ماركس الإشتراكي، باسم الطبقة العاملة وسائر المنتجين بسواعدهم وبأدمغتهم. وهو المشروع العظيم الذي كان يرمي ماركس منه الى تغيير العالم، في الإتجاه الأكثر تقدماً، والأكثر حرية للبشر، والأكثر عدالة إجتماعية. وأشهد أن هذا القدر من قراءتي لـ”رأس المال” ولكتابات ماركس الأخرى، السياسية منها والتاريخية خصوصاً، ولكتابات أنجلز ولينين ولآخرين من كلاسيكيي الماركسية ممن أتيحت لي إمكان الوصول إلى بعض كتاباتهم وكتبهم، هذه القراءات هي التي جعلتني، منذ البدايات، لا سيما خلال فترة تحملي مسؤوليات سياسية، وهي التي تجعلني اليوم على وجه الخصوص، معنياً بالشأن الإقتصادي في بلدي وفي العالم. وهي التي جعلتني في السابق، وتجعلني اليوم، متابعاً للتحولات الجارية في هذا الشأن، مهموماً بالآثار السلبية التي يولدها النظام الرأسمالي في تطوره العشوائي، وحالماً مثل الملايين من أمثالي بالوصول إلى القدرة في ذات زمان، قدرة هذه الملايين بالذات، على تحقيق تحررها من هذا النمط المتوحش من علاقات الإنتاج الرأسمالية، التي تكونت، ولا تزال تتكون، خارج أي قانون.
هذه المقدمة رأيتها ضرورية قبل الإسترسال في تأملاتي حول الأزمة المالية التي تواجه الرأسمال المعولم، وتواجه النظام الرأسمالي العالمي برمته، وتواجه العالم المعاصر كله. لكن هذه المقدمة، وتأملاتي المتصلة بها، لا تعني أنني أملك قدرة الخبير المالي والإقتصادي على الدخول في تحليل دقيق وعلمي لطبيعة هذه الأزمة. غير أن ما توفر لي فهمه من هذه الأزمة، ولا أظن أن بعض ما فهمته صعب على الفهم لمن يريد أن يفهم. وما فهمته هو أن الرأسمال المعولم قد تجاوز، في طرائق تطوره، القوانين الموضوعية لكل عمل إنساني، لا سيما هذا النوع من العمل الذي يتصل بحركة المال، وبالتأثيرات التي يمارسها هذا المال في حياة البشر. وأول ما تجاوزه هذا الرأسمال المعولم في تطوره اللامحدود هو تحرره من الإرتباط بقوانين تنظم حركته. إذ هو وضع لحركته قوانين تخصه هو بالذات، من دون أي حساب للبشر. لكن ما هو أخطر من ذلك، ربما، في سلوك أرباب الرأسمال المعولم، هو تجاوزهم حدود الدولة الوطنية، وحدود القارات، وحدود المؤسسات المالية والسياسية الرأسمالية العالمية ذاتها، التي وجدت جميعها لكي تنظم العمل المالي والإقتصادي والسياسي في آن واحد. وتشكل الولايات المتحدة الأميركية المكان الذي كان يرتع فيه هذا الرأسمال بحرية مطلقة، متجاوزاً كل القيود، وذلك تحت شعار الديموقراطية، الشعار الحق الذي أُريدَ ويراد به باطل.
إلا أن هذا التجاوز الذي اختاره الرأسمال المعولم في حركته إنما بلغ ذروته في المرحلة التي أعقبت انهيار النظام الإشتراكي العالمي. إذ صوّر المنظرون لهذا الرأسمال المعولم، وصوّر المنظرون للنظام الرأسمالي في شكل عام، صوّروا الأمور كما لو أن انهيار النظام الإشتراكي قد حرم البشر من حقهم الطبيعي بالحلم بمستقبل أفضل لهم، في نظام تتوحد فيه الأقانيم الثلاثة الأساسية في حياة البشرية: الحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية.
وهذا التنظير للرأسمال المعولم وللنظام الرأسمالي هو الذي صار يعرف في الأدبيات المعاصرة بنظرية نهاية التاريخ، أي نهاية هذا الحلم بتغيير العالم وبقاء البشرية محكومة مدى الدهر بقوانين النظام الرأسمالي. وبالطبع فقد كان ذلك التنظير من أسوأ ما أنتجته هذه المرحلة الجديدة في تاريخ العالم، المرحلة التي كانت تتهيأ شروطها قبل انهيار النظام الإشتراكي، ثم سلكت طريقها إلى التحقق في أعقاب ذلك الإنهيار. هذا التنظير العبثي، الذي حاول أصحابه لَوْيَ عنق التاريخ ولوي عنق قوانينه الموضوعية، قد جاءت الأزمة المالية الراهنة التي تعصف بالعالم الرأسمالي، وتهدد البشرية كلها، وتهدد بالأخص الأكثرية الساحقة من الناس بمستقبل أسود، جاءت لتؤكد أنه، أي هذا التنظير، كان مناقضاً للقوانين الأولية والأساسية للحياة على الكوكب. فليس صحيحاً، ولا يمكن أن يكون صحيحاً، أن للتاريخ نهاية.
لقد عرف العالم أزمات عديدة في تاريخه الحديث. لكن أول أزمة رأسمالية كبرى شهدها العالم كانت تلك التي حصلت في عام 1929 وامتدت إلى عام 1933، وقادت العالم إلى حرب كونية خلفت دماراً بشرياً ومادياُ لا تزال شعوب أوروبا، خصوصاً، تتذكره، وتتذكر مآسيها فيه، وترفض الإنجرار وراء المغامرين في اتجاهه من جديد. وفي ظني فإن ذلك الذي حصل في أعقاب أزمة 1929، أي الحرب الكونية، لن يتكرر على النحو ذاته، وفي اتجاهه. فشروط العصر الراهن لا تسمح بذلك. لكن الأزمات التي حدثت في ما بعد، ومنها أزمة النمور الآسيوية في أواخر تسعينات القرن الماضي، وأزمة البرازيل والأرجنتين في أميركا اللاتينية في مطالع تسعينات القرن الماضي، قد تمكن الرأسمال العالمي، من خلال مؤسساته المالية الكبرى، من وضع حد لمفاعيلها.
والمعروف أن طبيعة الأزمات السابقة المتصلة بالانتاج، كانت مختلفة عن طبيعة الأزمة الراهنة. إذ أن تلك الأزمات كانت تحل بإتلاف الفائض من الإنتاج، عندما كان يزداد العرض عن الطلب، من أجل خلق التوازن الطبيعي في السوق بينهما. ورغم أن مثل تلك التدابير كان يصيب القسم الأعظم من الناس في كل بقاع الأرض، فإن الرأسمال ظل محافظاً على ذاته، قادراً على تجديد نفسه، وعلى تجاوز أزماته، كلما كانت تظهر إلى الوجود، من دون أن يأخذ في الإعتبار العواقب الخطيرة التي كانت تصيب الملايين من البشر من جراء تلك التدابير. إلا أن الأزمة الراهنة تختلف في طبيعتها عن تلك الأزمات السابقة، بما فيها أزمة 1929، وتتجاوزها بالآثار التي تولدت عنها وتتولد. فهي أزمة ناتجة في الأساس عن المضاربات، المضاربات في البورصة، وفي العقارات، وفي الإقتصاد الريعي. وهي مضاربات لا صلة ضرورية لها بالإنتاج الحقيقي للخيرات المادية. وهذا ما شهدناه في الإرتفاع الجنوني لأسعار النفط والغاز، وفي الإرتفاع الجنوني في العقارات وفي مشتقات مواد البناء. ذلك أن الرأسمال المعولم الذي حرر نفسه من القوانين الطبيعية، وتجاوز في شكل متعسف الحد الأدنى لرقابة الدولة، الرقابة القانونية الرامية إلى تنظيم حركته، وليس للتدخل المباشر في شؤونه، هذا الرأسمال قد سمح لنفسه، استناداً إلى حريته المطلقة هذه، في أن يمارس كل أنواع الأعمال المالية، لا سيما غير الشرعية منها، وغير الإنسانية على وجه التحديد. وكان من أخطر أشكال تلك الأعمال ما تمثل بتجارة الرقيق الأبيض، وبالإستخدام المفرط وغير القانوني وغير الإنساني لعمالة الأطفال، وبتجارة المخدرات، وبتجارة السلاح، وبإثارة الحروب المحلية بهدف خلق أسواق لهذا السلاح، وبتبييض الأموال الناتجة عن مثل هذه الأعمال. لذلك لم يكن مستغرباً أن يفيق العالم فجأة على هذه الأزمة المالية التي هزته، والتي لا نعرف إلى أي مدى ستتمكن التدابير المتخذة من قبل الدول الرأسمالية الكبرى من وضع حد لها وتجنيب العالم نتائجها الكارثية.
تطرح هذه الأزمة المالية الكبرى سؤالاً كبيراً، سؤالاً كثرت محاولات الإجابة عنه، وتعددت الإجتهادات والنظريات بشأنه. لكنها لم تأتِ بالجواب المنطقي المقنع، لأمثالي على الأقل، الجواب المنقذ من الكوارث. هذا السؤال الكبير هو السؤال المتصل بتحديد المعنى الحقيقي للعولمة الرأسمالية المعاصرة، وبتحديد الإتجاه الذي يسير فيه هذا الرأسمال المعولم، وإلى متى، وبأية كلفة للبشر عموماً، وللكوكب الأرضي في بيئته وفي محيطه الخارجي. ولقد أتيح لي، منذ تسعينات القرن الماضي، أن أحضر العديد من الندوات التي نظمت في بعض البلدان العربية، حول العولمة بعامة، وحول العولمة الرأسمالية بخاصة. كما تقصدت أن أبحث عن الكتب والكتابات، التي تعالج الموضوع. وقرأت الكثير منها. واستمعت إلى شروحات أصدقاء لي من كبار خبراء المال والإقتصاد. لكنني أعترف بأن ما قرأته وما سمعته كان، في معظمه، كلاماً إيديولوجياً في أحد اتجاهين، يساري رافض إيديولوجياً لفكرة العولمة، ويميني مبرر لها من دون إقناع، أو شارح لها ولطبيعتها، في شكل يشبه الموضوعية. وكان بعض آخر مما قرأته وسمعته عن الظاهرة يحاول جاهداً تقصي الأسباب الموضوعية التي أدت إلى ولادتها، من دون أن يوفق إلى تقديم ما هو ضروري لمعرفة النتائج التي سيقود لها التطور المتسارع للظاهرة. وقد وجدتني، في مرحلة لاحقة، في ضوء استشراء الظاهرة، في حاجة للعودة إلى ماركس. فقرأت بعض فصول كتابه “رأس المال”، لا سيما ما يتعلق منها بالتراكم الرأسمالي وباتجاهاته التاريخية. فاكتشفت ما لم أكن قد انتبهت إليه، في قراءتي الأولى لماركس، أن عبقري الألفية الثانية كان يستشرف في كتاباته عن التراكم الرأسمالي تحول الرأسمال من رأسمال وطني إلى رأسمال عالمي سيستولي على العالم ويتحكم بمصائره، من دون أن يغامر، أي ماركس، في الحديث – ولم يكن ذلك ممكناً بالنسبة إليه في ذلك التاريخ – عن المواصفات التي صارت تميز الرأسمال المعولم المعاصر. لكن ماركس دعا، في مشروعه الإشتراكي البديل، إلى تأسيس قوة عالمية تنافس هذا الرأسمال المعولم في السيطرة على مصائر العالم، في شكل إنساني.
ثم إنني اكتشفت، في الوقت عينه، أن العولمة لا تنحصر في الرأسمال وحده. بل هي تتجاوز هذا الرأسمال ودوره وفعله. وما أرمي إليه بقولي هذا هو أن الرأسمال المعولم قد ولّد معه منجزات علمية كبرى لمصلحة تطوره هو، مقدماً في الآن ذاته، في هذه الإنجازات، تقدماً كبيراً للتطور الإنساني بشكل عام. في هذا السياق لا بد من الإقرار بواقع جديد ومهم هو أن وظيفة ودور الرأسمال المعولم، في الشروط التي أشرنا إليها، قد قادا العالم، في التطور العاصف لهذا الرأسمال، إلى مرحلة جديدة من تاريخه. وإذا كان هذا الرأسمال، خلال ثلاثة أرباع القرن من وجود نظام عالمي إشتراكي، محدود القدرة، فإن انهيار هذا النظام النقيض قد هيأ له الشروط لكي يتابع تطوره، من دون معوّقات من أي نوع.
الحقيقة الكبيرة التي اكتشفتها، وأنا أقرأ وأتابع السجالات حول العولمة، أن الرأسمال المعولم قد قاد العالم في تطوره إلى وحدة موضوعية غير مسبوقة في التاريخ. ووحدة العالم هذه إنما تعبر عنها، في شكل واضح، أوتوسترادات المعرفة وأوتوسترادات الإتصالات. وهي إنجازات بالغة الأهمية بالنسبة إلى مستقبل البشرية. لكنهما، بالمقابل، يشكلان مصدر بؤسه وقلقه على مستقبله، لأنهما غير محكومين بقوانين تنظم استخدام البشر لهما في شكل يخدم مصالحهم ويؤمن لهم مستقبلاً أفضل. ذلك أن الذي يتحكم بهذه المنجزات العظيمة هو الرأسمال المعولم ذاته، ولمصالحه هو، وضد مصالح البشر. كما يستخدمه، خارج القوانين التي تنظمه، المتطرفون من كل الأنواع، الذين يعملون على تدمير حياة البشر في بلدانهم وفي البلدان الأخرى، من نوع ما حصل ويحصل في نشاط بن لادن وأمثاله في كل الأمكنة في عالمنا المعاصر.
إن وحدة العالم هذه هي وحدة موضوعية، كنتاج طبيعي للتطور العاصف الذي شهدناه خلال هذه الحقبة ابتداء من الربع الأخير من القرن الماضي وصولاً إلى العقد الأول من القرن الجديد. وكون العالم قد صار موحداً، من الناحية الموضوعية، فقد صار كل حدث يقع في آخر منطقة في العالم يصيب على الفور، في صيغة من الصيغ، العالم في المنطقة الأخرى منه. وبدأت تتكون حضارة عالمية جديدة، وثقافة عالمية جديدة، بفعل هذه الوحدة الآخذة في التكون بسرعة مذهلة، حضارة وثقافة لا تلغيان، بالضرورة، ما خلفته الحضارات القديمة من عظيم، ولا تلغيان، بالقطع، الأساسي من ثقافات الشعوب، وهي متعددة في أنواعها وفي مصادرها التاريخية. الحضارة العالمية الجديدة، والثقافة العالمية الجديدة، هما، في الأساس، من نتاج التطور الهائل للعلوم وللتقنيات وللمعرفة ولوسائل الإتصالات. لكنهما، في الوقت عينه، من الناحية المبدئية، تشكلان خلاصة التفاعل الحضاري والديموقراطي بين الثقافات على اختلافها. غير أن العائق الذي يحول دون تطور هاتين الحضارة والثقافة العالميتين في الإتجاه الذي يخدم مصالح البشر جميعاً إنما يعود، في الوقت الراهن والى زمن لا نستطيع تحديده، إلى هذه الهيمنة التي يمارسها الرأسمال المعولم، الفالت من عقاله، على مصائر البشرية، وهو ما تشير إليه بوضوح الأزمة المالية الراهنة لهذا الرأسمال المعولم.
خلاصة تأملاتي هذه، التي تنقصها المعرفة الحقيقية بعلم الإقتصاد، والمعرفة الحقيقية بالمال وبحركته، تقودني إلى تقديم بعض الإستنتاجات، ربما بقدر غير كاف من البراهين والأدلة، لكن بقدر كبير من الرغبة والحلم في التغيير، استناداً إلى مشروع ماركس الأصلي، معدلاً في الإتجاه الذي يجعله أكثر تطابقاً مع العصر ومع تحولاته.
الإستنتاج الأول، هو أن وحدة العالم التي أشرت إليها هي وحدة موضوعية. وعلينا أن نتعامل معها كحقيقة تاريخية خارج التصنيف الإيديولوجي لها. وهذا الإقرار بوحدة العالم إنما يرمي إلى جعل الشعوب، الصغيرة منها خصوصاً، تدرك أنها لا تستطيع أن تبقى في منأى عما يجري من تحولات في العالم، في الإيجابي من هذه التحولات، وفي السلبي منها في الوقت الراهن، على وجه الخصوص. وهذا الإقرار بوحدة العالم يقضي بأن يخرج المغلقون على هوياتهم القديمة من الأسر الذي يضعون أنفسهم فيه، وأن يدخلوا في العصر، من دون التخلي عن هوياتهم، ولكن بالإقرار بأن هذه الهويات بحاجة دائمة إلى أن تتفاعل مع تحولات العصر وتغتني بها.
الإستنتاج الثاني، هو أن الدولة الوطنية لا تزال بحاجة إلى أن تتوطد مواقعها، وأن يتعزز دورها كناظم للحياة في بلدانها، خلافاً لما شاع، بعد انهيار التجربة الإشتراكية كرد على المبالغة في إعطاء الدولة وظائف تتجاوز دورها. ذلك أن وظيفة الدولة، بهذا المعنى، إنما تتحدد في الرقابة على حركة الإقتصاد الرأسمالي، وعلى همجيته وتوحشه، الرقابة خصوصاً على تجاوزه غير المشروع للأنظمة وللقوانين، وتجاوزه غير المشروع لحقوق الناس في أبسط أولوياتها. إلا أن هذه الدولة لا يمكن، في العصر الحالي، وفي شروطه، إلا أن تكون دولة حق وقانون ومؤسسات، حتى في ظل النظام الرأسمالي المهيمن على العالم. فمن شأن هذه الوظيفة وهذا الدور للدولة في العالم المعاصر أن يمنعا وقوع ظاهرات تتكرر في البلدان المتقدمة وفي البلدان المتخلفة، من نوع الدخول في الجريمة المنظمة، وفي الفساد، وفي سرقة خيرات المجتمع، وفي الإفقار النسبي والمطلق للأكثرية الساحقة من الناس، وفي تدمير البيئة، وفي الإعتداء على المحيط الخارجي للكوكب، من دون حساب للعواقب المترتبة على ذلك.
الإستنتاج الثالث، هو أن الإتحادات التي نشأت والتي تنشأ في مناطق مختلفة من العالم ينبغي أن ترتقي إلى مستوى القدرة على لعب دور ناظم للحياة الإقتصادية في بلدانها، ولحركة الرأسمال خصوصاً، أسوة بما يفترض أن تقوم به الدولة في كل بلد، واستكمالاً رشيداً لدورها على صعيد الإتحادات الآخذة في التشكل في مناطق مختلفة في العالم.
الإستنتاج الرابع، هو أن منظمة الأمم المتحدة باتت بحاجة إلى أن تستعيد دورها الذي من أجله أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وهو دور لا يتعلق فقط بإقرار السلم، وبالعمل على حل النزاعات، وبالعمل على إعطاء الشعوب كافة، والقوميات الصغيرة والأقليات القومية، حقوقها، بما في ذلك حقوقها في تقرير مصائرها بحرية. بل هو دور يجب أن يتجاوز تلك الوظيفة الأصلية إلى الرقابة على الرأسمال المعولم، من أجل منعه من تجاوز القوانين العامة، على حساب حقوق الشعوب والأمم، وحقوق البشر، ووضع القوانين الضرورية لتحقيق هذا النوع من الرقابة. هذا الدور للأمم المتحدة هو أشبه بحكومة عالمية، شرط ألا يبقى حق النقض مقتصراً على الخمسة الكبار. بل ينبغي أن تتمتع به دول كبرى من الأطراف، إضافة إلى ألمانيا، مثل البرازيل والهند واليابان، ودولة أفريقية من الدول الكبرى المستقرة أمنياً واقتصادياً.
الإستنتاج الخامس، هو أن هذه الأزمة المالية العاصفة إنما تتطلب من الطامحين إلى التغيير في بلداننا، باسم اليسار خصوصاً، بمدارسه المختلفة، أن يجهدوا بكل طاقاتهم لصياغة برنامجهم، أو برامجهم الرامية إلى تحقيق هذا التغيير. وهو جهد يقضي بالربط بين ما تحقق في القرن الماضي من إنجازات باسم الإشتراكية، ثم تبدد على يد من تقدموا لوضعه موضع التطبيق، وبين ما حصل من متغيرات في العصر الجديد، في ظل العولمة الرأسمالية، من إنجازات علمية، ومن كوارث إقتصادية ومالية وبيئية دفع الملايين من حياتهم الثمن الباهظ لها. إلا أن هذا الجهد المطلوب لتحقيق التغيير في الإتجاه الذي أشير إليه إنما يقضي بالتزام الواقعية، وبعدم الوقوع في أسر الماضي وفي الحنين إليه، وعدم الدخول في تنظيرات سياسية عشوائية وعدم سلوك طرائق في النضال تقود إلى تدمير الهدف المنشود وإلى تدمير الحلم البشري المتصل به.
تلك هي تأملاتي كمواطن عربي، تأملاتي التي أوحتها لي الأزمة المالية التي وضعت العالم على شفا كارثة كبرى. وتلك هي بعض استنتاجاتي التي استخلصتها من قراءتي لهذه الأزمة ولمفاعيلها الراهنة على الأقل.