توحيد الذاكرة الجمعية وترتيب الأولويات
نصر شمالي
بدلاً من أن تكون الأزمة العالمية النوعية الراهنة دافعاً قوياً يحث الأوساط العربية النافذة على تصويب معارفها المستعارة، الفاسدة المدمرة، نرى هذه الأوساط وهي توغل في ضلالها، وفي تجاهلها لواجباتها الميدانية المباشرة، التي تتلخص في دعم المقاومة وتطويرها كطريق إجبارية وحيدة لتحقيق الحرية والاستقلال، ومن ثم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إنه ليدمي القلب أن ترى في فلسطين والعراق، تحت الاحتلال، من لا يريد أن يرى استحالة إحراز أي تقدم جدي، في مضمار الديمقراطية وحقوق الإنسان، بسبب غياب الاستقلال والحرية، حيث لا يمكننا تنظيم علاقاتنا الداخلية ديمقراطيا، لأنه لا يمكننا تحقيق نهضتنا العلمية وتطورنا الاجتماعي والاقتصادي في ظل أوضاع مفروضة علينا بالاستعمار المباشر أو غير المباشر، أي في غياب الاستقلال والحرية. لا يجوز أن يتوقف النضال من أجل الديمقراطية حتى في ظل الاحتلال، إنما في سياق النضال الأساسي من أجل الحرية التي لها الأولوية، والتي يجب أن يكون واضحاً ومعلوماً أن عدم توفرها لا يمكن أن يسمح بتنظيم علاقات داخلية ديمقراطية! ولا يجوز أن يتوقف النضال من أجل حقوق الإنسان حتى في ظل الاحتلال، إنما في سياق النضال من أجل الاستقلال، أي من أجل استرداد الأراضي المحتلة والثروات المنهوبة، وإزالة الحدود المصطنعة التي حولت أقطارنا إلى زنزانات، فمن دون تحقيق ذلك لا كرامة ولا حقوق للأفراد والجماعات، وبالتالي فإن الأولوية هنا للاستقلال الذي يستحيل من دونه إحراز أي تقدم لصالح حقوق الإنسان.
ليس ثمة طريق أمام العرب للخروج من حالة الموات والدخول إلى الحياة سوى طريق المقاومة الإجباري، لأن هذا العصر الأوروبي الأمريكي، منذ نهوضه، لم يكن مؤهلاً سوى لممارسة القتل ونهب الأموال، فكأنما هو (حسب فاوست) أبرم فعلاً اتفاقية مع الشيطان! وهاهو اليوم وقد فقد كل قيمة أخلاقية، وانحدر إلى مصير موحش لم يعد هو نفسه قادراً على التحكم فيه، فبينما كانت الاشتباكات المسلحة في الماضي تخاض، عموماً وغالباً، من أجل تحقيق السلام، فإن اشتباكات الأوروبيين والأمريكيين تنشب في إطار حرب شاملة مفتوحة، فكأنما هي الحرب من أجل الحرب، أو أن الحرب أصبحت أهم ميادين التجارة، والجثث أهم سلعها، خاصة في بلادنا العربية والإسلامية، وعلى الأخص في فلسطين والعراق وأفغانستان.
إن الأمر اليومي لإدارة هذا النظام الربوي العالمي هو: أقتل، واقتل باستمرار! والحال أنه على مدى القرون الخمسة الماضية ظلت تزرع بذور الحرب القادمة في تربة الحرب التي سبقتها! أنظروا إلى الحروب المتوالية في البلاد العربية خاصة! لقد كانت كل حرب تمهد لأخرى، أو تلد أخرى، وكان ذلك ولا يزال يتحقق عن سابق تصور وتصميم من إدارات النظام الدولي المتعاقبة. وقد استمر هذا الحال طيلة القرن العشرين الماضي الذي كان أوله مثل آخره، والذين توهموا بين مرحلة وأخرى من مراحله، خاصة العرب، أنهم حققوا بعض التقدم، سرعان ما اكتشفوا أن ما حققوه هو التراجع، فهو بدأ باحتلال فلسطين وانتهى باحتلال العراق!
لقد كان القرن الماضي خلبياً مخادعاً، ظاهره التقدم الذي بدا كأنما هو في متناول اليد، وباطنه التقهقر والسم الزعاف، والأوضاع في بدايته لم تكن أفضل لكنها في نهايته صارت أسوأ، ليس من حيث تفاقم المجازر والمظالم والبؤس فقط، بل من حيث اضمحلال الحلم وفقدان الأمل، وهذا الاضمحلال كان محصلة العجز عن رؤية العصر بأكمله ونظامه العالمي بمجمله، فالاختراق الفاوستي العميق للبنى الأممية حقق الكثير من أهدافه المدمرة، وأولها جعل الأمم تسلم عموماً بأزلية وأبدية هذا العصر ونظامه، واليوم، إذا كان قد حل أوان التغلب على هذا الاختراق، فإن ذلك يستدعي أول ما يستدعي: تصويب معارفنا التاريخية، وتنظيم ذاكرتنا الجمعية، وترتيب أولوياتنا الجهادية.
إن تصويب معارفنا، وتنظيم وتوحيد ذاكرتنا، وترتيب أولوياتنا، يقتضي العودة إلى الأصول التاريخية التي طمسها أشقياء هذا العصر العنصريون، بحيث جعلوا تاريخ الحضارة البشرية مقتصراً على الأوروبيين والأمريكيين واليهود، ولا يوجد خارجهم سوى ‘البدائيين البرابرة’ الذين يستحقون مصيرهم التعيس! فإذا صوبنا معارفنا فسوف نجد أن الإنجازات المادية الرائعة التي تحققت في القرون الأخيرة ليست إلا محصلة تكامل الجملة البشرية وجهودها في جميع القارات، وسوف نجد أن العرب تحديداً أسسوا لعصر عالمي كامل، دام من القرن السابع الميلادي وحتى القرن السادس عشر، وغطى جميع أنحاء العالم الذي كان معروفاً آنذاك، من الصين إلى اللوار، غير أن المركزية الأوروبية الأمريكية الصهيونية تتجاهل بكل بساطة ذلك العصر بأعوامه الألف، وتحيله إلى الفراغ والظلام، علماً أن هذا العصر الحالي الذي تلاه لا يمكن أن يستقيم فهمه، وأن يتحدد موقعه التاريخي منطقياً، وأن يظهر الأساس الذي نهضت عليه إنجازاته المادية العظيمة، مع تجاهل العصر الذي سبقه: العصر العربي الإسلامي العالمي.
لقد قاد التعصب العنصري المغرض الفاوستيين إلى تلخيص تاريخ العالم بتاريخ اليهود واليونان والرومان والأوروبيين والأمريكان، الأمر الذي ألحق أشد الأذى بالبشرية جمعاء، وفي حال استمرار سيادة وهيمنة مثل هذه التصنيفات البغيضة فإن ذلك يمكن أن يهدد الوجود البشري بمجمله على كوكب الأرض بكامله، ويبدو الأمريكيون وقد صمموا على أن يكون القرن القادم أمريكياً صهيونياً، بكل ما سوف يترتب على ذلك من سياسات دولية حمقاء ضيقة الأفق ومدمرة، وإذا كانوا يتعرضون اليوم للانتكاسات الكبيرة في توجههم هذا، خاصة في بلادنا العربية والإسلامية، فإن ذلك يدعونا إلى الكف عن الالتزام بتلفيقاتهم وتوليفاتهم التاريخية، التي صنعتها مركزيتهم على قياس مصالحها الضيقة، فقد آن أوان تصويب معارفنا التاريخية، وتنظيم وتوحيد ذاكرتنا الجمعية، وترتيب أولوياتنا النضالية، وفي مقدمتها المقاومة لنيل حريتنا وتحقيق استقلالنا.
كاتب سوري