صفحات الحوار

عيسى مخلوف: الوقت يأكل الحياة ويأكلها أيضاً الابتذال

null
عناية جابر
الهجرة جزء من حاضر متواصل والحاضر لا نتذكره بل نعيشه
عيسى مخلوف، كاتب وشاعر واعلامي، يعمل حالياً مديراً للاخبار في »اذاعة الشرق« في باريس، بعد ان كان العام الماضي مستشاراً للشؤون الثقافية والاجتماعية في منظمة الأمم المتحدة في نيويورك في اطار الدورة الحادية والستين للجمعية العامة. وهو الآن في بيروت للمشاركة في حدثين ثقافيين، الحدث الاول هو »انطلاق مسرحية »قدام باب السفارة، الليل كان طويل« في »مسرح المدينة« والتي كتبها مع الفنانة نضال الأشقر ومن اخراجها، اما الحدث الثاني فمعرض الكتاب الفرنسي وله فيه لقاء وحفل توقيع بمناسبة صدور الترجمة الفرنسية لكتابه »رسالة الى الأختين« عن دار جوزيه كورتي الباريسية، وتحمل الترجمة توقيع الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، وكان الكتاب صدر في الاصل عن دار النهار للنشر عام .٢٠٠٤ (يذكر ان مخلوف يوقع كتابه السبت في الثامنة والنصف في »البيال«).

÷ »قدام باب السفارة الليل كان طويل«، عملك المسرحي الثاني بعد ترجمة »مهاجر بريسبان« للشاعر اللبناني باللغة الفرنسية جورج شحادة. كيف تقوّم تجربتك في هذين العملين؟
﴿ قدمت الصيغة العربية لمسرحية »مهاجر بريسبان« في »مهرجانات بعلبك الدولية« صيف .٢٠٠٤ كانت من اخراج نبيل الأظن وتمثيل نخبة من الممثلين اللبنانيين في تلك المسرحية، وكانت عملي الاول للمسرح، اقتصر جهدي على الترجمة. كان هاجسي، في المقام الاول، هاجس لغوي وجمالي. وكان السؤال: بأي لغة ينبغي ان ننقل الى العربية مسرحية جورج شحادة: الفصحى أم المحكية؟ وادركت، منذ البداية، ان ترجمة النص تحتاج الى توظيف الانجازين: انجاز الفصحى وانجاز المحكية على السواء. وكان ثمة مستويات عدة داخل كل منهما. مثلا، اللغة الفصحى التي تنقل النبض الشعري للنص الاصلي، تختلف كليا عن الفصحى الجامدة التي يعتمد عليها رئيس البلدية في خطابه الرسمي. كنت ابحث عن لغة حديثة تكون مرآة للمخيلة والفكر، ولحركة الجسد ايضا. هذه، في اختصار، العلاقة مع »مهاجر بريسبان«.
أما بالنسبة الى مسرحية »قدام باب السفارة الليل كان طويل«، فكانت المقاربة مختلفة. صحيح ان الصيغة العربية لمسرحية شحادة لفتت انتباه الصديقة الفنانة نضال الاشقر، لكن الامور لم تتوقف عند هذا الحد. في العمل الجديد، اخرجتني نضال من عزلة الكاتب الى فضاء المسرح المفتوح. جعلتني ألمس النص وأرى مراحل تجسده، وكنّا نعيد صياغة بعض العبارات والمشاهد وفقا لطريقة تقديمها. لقد تعلمت كثيرا من هذه التجربة بعد ان عاينت الفرق بين اللغة المجردة التي استعملها ككاتب، واللغة التي تتحول بفعل خيمياء المسرح الى صوت وجسد وفرجة. شيء من السحر حين يخرج الممثلون من الكلمات ويولدون في شخصيات جديدة كانت، منذ لحظة، حبراً على ورق.
÷ لماذا كان الاعتماد على المحكية اللبنانية والمسرحية ستقوم بجولة في عدد من الدول العربية قبل انتقالها الى اوروبا؟
﴿ فرضت المحكية نفسها علينا منذ البداية. ما عدا بعض العبارات التي استوحيناها من لغة الخطاب السياسي الرث، اللغة الموضبة والمعلبة، الجاهزة والمكرورة والتي يستعملها سياسيونا ويتناقلونها من جيل الى أخر، ما عدا بعض هذه العبارات »الفصيحة«، اعتمد النص بأكمله على المحكية الدارجة ليكون قريباً قدر المستطاع من نبض الحياة اليومية وانفعالاتها المباشرة. غير ان المحكية، بما هي سائل متدفق، فرضت علينا الحذر الشديد وعملنا على تكثيفها وجعلها قادرة على اجتراح الومضة والاشارة الموحية.
÷ عندما عملت على مسرحية »مهاجر بريسبان« بقيت في باريس ولم ترافق التمارين عن قرب، بخلاف ما حدث مع مسرحية »قدام باب السفارة الليل كان طويل«، كيف عشت تجربتك الجديدة مع نضال الاشقر؟
﴿ عندما جئت منذ اسابيع الى بيروت لمشاهدة التمارين ولنتأكد من ملاءمة النص على ألسنة الممثلين، شخصا اخر غير الذي عرفته فيها من قبل. وجدتها في اطارها الصحيح كالسمكة في مائها او كالطائر في فضائه شخصية باذخة الحضور، كلما همت بالصعود الى الخشبة اتسعت الخشبة. كأنها تختزن في صوتها قرونا من الدهشة. وعبر ذلك، كأنها تقول ان نبض الفن ينبغي ألا يتوقف وإلا توقف نبض المدينة. فما عاشته بيروت تنوء به اكبر المدن، وكأن ما يحمي المدينة من المشاريع السياسية المتوحشة التي تنقض عليها من الداخل والخارج هو التشبث بالفعل الابداعي. هكذا يصبح الفن، هنا، طريقة مواجهة وتعبيراً عن أمل. ومع ذلك، تبقى الاسئلة قائمة: من أين يأتي المرء بكل هذا الزخم في مكان يتمسك، منذ عقود، بأزماته وويلاته؟ كيف يمكن الفنان، وسط هذا الخراب الروحي والمادي الكبير، ان يبدع؟ ام انه يرى، على حد تعبير جلال الدين الرومي، »الماسة تحت الأنقاض«، فيصبح شعاعها الدفين بوصلته وقبلته؟
كان ثمة تكامل بيننا في كتابة النص والأغاني، ما عدا الاغنيات القديمة بالطبع، واغنية كان كتبها الأديب الراحل خليل تقي الدين، وكذلك الاغنية الاخيرة التي تختتم بها المسرحية وهي من تأليف وتلحين خالد العبد الله الذي وضع ايضا موسيقى الأغاني الجديدة. ولم يكن التكامل من خلال اضافة كلمة من هنا او عبارة او مقطع من هناك، بل من خلال ما هو أهم واعمق، أي اعتناق الحالة الواحدة التي جمعتنا في وجهة مشتركة. وكنّا كلما كتبنا مشهداً، تأخذ نضال الكلمات مباشرة الى الخشبة. تتلمس قدرة تلك الكلمات على التجسد. وتشرع في تخيلها وأدائها وادخالها في قالب دراماتورجي، وهذا ما دفعنا احيانا الى صياغة بعض المشاهد مرات عدة. كانت تسعى الى رؤية النص مجسداً على الفور. لكن تجسيده، في صورته النهائية، احتاج الى اشهر من النحت والصقل.
اتمنى لو كان بالامكان تصوير التمارين وعرضها ليتسنى للمشاهد رؤية العصب الحي كيف يتحرك كشعلة تتمايل في كل الاتجاهات ولا تهدأ.
÷ تركّز مسرحية »قدام باب السفارة الليل كان طويل« على موضوع الهجرة. كيف تنظر الى هذا الموضوع أنت من هجر لبنان عقب اندلاع الحرب الأهلية وسافر الى كراكاس ونيويورك فباريس حيث مقر اقامتك الدائم؟
÷ سيرتي هي، في جزء كبير منها، سيرة هجرة. موضوع الهجرة لا يقتصر على شعب دون آخر. الهجرة اليوم، ومنذ ثلاثة عقود، ظاهرة عالمية وقد اتخذت معاني جديدة مع تطور وسائل النقل والاتصال وثورة المعلوماتية والتغيرات السياسية والاقتصادية. يعتبر المفكر إدوارد سعيد ان الهجرة الكثيفة للشعوب طبعت العقود الماضية وشكلت حدثا اساسيا في تاريخها الحديث. ولقد جاءت مواكبة للحرب والاستعمار ونيل الدول استقلالاتها الوطنية، كما لازمت ظواهر مدمرة كالمجاعة والتطهير العرقي. ويلاحظ سعيد ان ملايين البشر ابتعدوا قسرا عن عائلاتهم واصولهم وتقاليدهم، وان المنفى كالموت، لكن بدون الخلاص الاخير الذي ينطوي عليه الموت.
تقتضي الاشارة ايضا الى ان الهجرة لا تكتسب لوناً واحداً في كل مكان، اذ يختلف الامر بين الذي يسافر، مثلا، من اوروبا الى الولايات المتحدة الاميركية، والذي يسافر من احدى دول العالم الثالث في اتجاه الغرب. هناك هجرة طوعية واخرى قسرية تفرضها الظروف القائمة. في هذا السياق، نرى الى لبنان الذي تعتبر فيه الهجرة جزءاً من تاريخه الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم. فهجرة اللبناني، في اغلب الاحيان، هي هجرة اضطرارية. انها نوع من الطرد.
جمالي وإنساني
÷ تنطلق المسرحية من الهجرة لكنها لا تتوقف عندها فقط، ما هو الهاجس من وراء هذا العمل المسرحي الجديد؟
﴿ الهاجس هو جمالي وإنساني، ككل عمل ابداعي. لا تحكي المسرحية عن شخص فرد بقدر ما تحكي عن الشخصية الجماعية في لبنان. الشخصية التي تنهش نفسها منذ اكثر من ستين سنة والتي لم تخرج بعد من مخاض الولادة. واذا كانت الهجرة هي المنطلق، فإن العمل يتناول ايضا الاسباب التي ادت إليها. تاريخ الهجرة في لبنان هو ايضا تاريخ النظام الطائفي اللبناني الذي »يفقس« حروبا، بحسب تعبير ورد في المسرحية، والذي لم نعرف كيف نتجاوزه بعد. بهذا المعنى، تنطوي المسرحية على ادانة للنظام الطائفي ولويلاته لكن بلغة فنية وبدون السقوط في الخطاب السياسي والايديولوجي المباشر. وتكشف في احد المشاهد كيف ان الذين يقفون امام باب السفارة في انتظار الحصول على جواز سفر للهرب من المشاكل، يتعاركون هم أنفسهم في ما بينهم. تدل هذه المفارقة على اننا في حال من الاستنفار الدائم وفي جهوزية للعراك لاننا لم نتفق على أبسط القواسم المشتركة التي لا يمكن بناء دولة حديثة بدونها.
يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: »المنفى هو حين يضيّع الإنسان مكانه في العالم«. انه بالفعل المنفى الاصعب ويمكن ان يصيبنا حتى ونحن داخل أوطاننا.
÷ تعتمد المسرحية على السخرية والرقص والغناء؟
﴿ منذ البداية، اعتمدت نضال على تصور مركب للعمل المسرحي يتداخل فيه النص والرقص والموسيقى والغناء والتصميم الغرافيكي المتحرك، ويتجاور فيه »الراب« والاغنية القديمة الوافدة من الموروث اللبناني. الموضوع مأسوي، لكنه مصاغ بأسلوب ساخر وبدينامية اخراجية حديثة وبحس جمالي حاد. مشهد الحرب مثلا بدا احتفالا عبثيا يفضح روح الحرب التي تفوز في لاوعي الإنسان، كما يفضح الجانب الاسود في النفس البشرية، في جــميع الحروب، وفي كل مكان وزمان.
÷ بدا الممثلون على الخشبة احيانا كأنهم على تماس مع الجمهور.
﴿ صحيح. لفرط اقترابهم منا ومن هواجسنا لا يعود ثمة فاصل بين المشاهد وبينهم، حتى ليظن المشاهد ان بإمكانه ملامستهم. الممثلون على الخشبة لا يتذكرون ما يروونه، ذلك ان المسافة تبطل بين ماض وحاضر ومستقبل. تبدو الهجرة، هنا، جزءاً من حاضر متواصل. والحاضر لا نتذكره بل نعيشه.
هناك ايضا المراهنة على الجيل الجديد. فبالاضافة الى الحضور المكرّس للممثلة ندى أبو فرحات، تقدم نضال الاشقر وجوها جديدة للمسرح اللبناني، هدية جديدة، ففي هذه الوجوه ما يدهش بالفعل.
رسالة الى الاختين
÷ السفر حاضر بقوة في اعمالك. كأنك من طينته، وهذا ما نستدل عليه بالأخص في مفتتح كتابك »عين السراب« الذي يتحدث عن اسفار عدة وليس عن سفر واحد. اين انت من هذه الأسفار كلها؟
﴿ (يجيب ضاحكاً) صحيح يا عناية. كأنني من طينة السفر. وهو بالفعل سفر متنوع ومتعدد ولا يتوقف عند حدود الدول فقط. هناك الأسفار الداخلية، أي داخل الذات، والتي لا تقل اهمية عن السفر بين القارات. عندما ادخل احيانا بعض المدن ينتابني الإحساس بأنني لا اسافر من بلد الى بلد بل من زمن الى زمن. وعندما يطالعني على الشاشة الصغيرة رجال الدين بلحاهم الكثة وفتاويهم اتساءل عما اوصلنا الى هذا الدرك، وهو سؤال يتوقف على الاجابة عنه مصير مجتمعاتنا العربية بأكملها. غير ان ثمة مسألة مهمة تنبغي الاشارة إليها في هذا المجال حتى لا يبقى الكلام في اطار عام، فالذي مهد الطريق للتشدد الديني والانغلاق هو النظام السياسي الذي يهيمن على العالم العربي والذي يحارب المعرفة والعلم، ويعمل، وهذا كل ما في وسعه، على تنمية الغرائز ونوازع العنف. هذا هو للاسف ظرفنا الذاتي الذي تضاف إليه الظروف الموضوعية التي تأتينا من الخارج ولا تنفك تعمل على اغراق شعوبنا في البؤس والتخلف.
÷ ألا تظن ان للسفر ايضا جوانب اخرى ايجابية؟
﴿ لا شك. كلما سافرنا الى مكان جديد، تغيّرت الزاوية التي ننظر منها الى العالم. يسمح لنا السفر برؤية الموضوع الواحد من زوايا مختلفة. وهذا ما قد يساعدنا على التسامح، مع أنفسنا اولا، ومن ثم مع الاخر، بل قد يساعدنا على تقبّل الاخر في اختلافه. فالفكرة الواحدة، حتى ولو كانت صحيحة، تصبح مستبدة ومدمرة. اصل الحروب هو حين يعتبر المرء ان جنسيته هي الأفضل، وديانته هي الأفضل وكذلك لون بشرته. هنا يكمن الخلاف الأصلي، نبع الحروب.
÷ تقول: »نسافر حتى لا نرى أهلنا يشيخون ولا نقرأ أيامهم على وجوههم«. هل تخشى، الى هذا الحد، ان يشيخ من حولك؟
﴿ منذ طفولتي وأنا أنظر بخوف الى وجوه من أحبهم وأعرف أن كل ثانية تمر تترك بصماتها عليها. في إحدى المرات، وكنت لا أزال في سن المراهقة، كنت أقف امام نافذة غرفتي العالية المطلة على الطريق الصغير قرب بيتنا. رأيت والدتي التي كانت يومها في عز صباها تسير على ذاك الطريق، وفجأة رحت أفكر في السنوات وقد أتت عليها، وإذا بي أتحسس دمعة في عيني. لكن، ما حيلتنا مع الوقت، فهو حتى حين يكون وقتنا ومنه تتكون حياتنا فنحن لا نستطيع الإمساك به ولا نستطيع امتلاكه. يقول بودلير: »الوقت يأكل الحياة«. يأكلها ايضا الابتذال. تأكلها النوازع السفلى والمشاعر الوضيعة وبعض التفاصيل الصغيرة النافلة.
÷ صدرت منذ ايام في باريس الترجمة الفرنسية لكتابك »رسالة الى الأختين«. تحمل الترجمة توقيع الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي. وهو كتابك الثاني يصدر عن دار جوزيه كورتي الفرنسية بعد كتاب »عين السراب« الذي ترجمه نبيل الأظن، وبعد »عزلة الذهــــب« الذي ترجمه جمال الدين بن شيخ. ماذا عن هذا الكتاب؟
﴿ »رسالة إلى الأختين« الذي يأتي الى الفرنسية في ترجمة أنيقة وراقية لعبد اللطيف اللعبي يأتي في سياق الكتاب الذي سبقه وعنوانه »عين السراب«، أي أنه يأتي من جهة النثر الذي يحضر فيه الشعر ولا يغيب عنه التأمل الفكري والفلسفي. الظاهر حكائي لكن الكتاب يذهب أبعد من ذلك.
÷ لماذا أردت أن تكون الرسالة الى أختين اثنتين؟
﴿ هذا هو الظاهر الحكائي الذي أشرت إليه منذ قليل. الرسالة مرسلة الى امرأة واحدة، يدرك كاتبها، مع مرور الوقت، ان أختها تشاركها قراءتها وربما أيضا كتابة الاجابات عنها. غير ان الأختين في الكتاب تبدوان كشعلة مزدوجة، وهما، على أي حال، يدخلان في لعبة المرايا المتعاكسة التي تطالعنا على مستوى الأسلوب ايضا والذي لا يتردد في النهل من مصادر ثقافية مختلفة، وينفتح على مختلف انواع التعبير الفني، من الكتابة الى الفنون التشكيلية فالموسيقى.
هناك ملمح حكائي آخر هو ان الوقت الذي يستغرقه الحب أقل بكثير من الوقت الذي تستغرقه كتابة الرسالة. كما يطرح الكتاب مسألة الكتابة ولمن نكتب؟ الكتابة هنا، ككل كتابة ربما، تتوجه الى الغائب. يصبح الغائب هو الذي نسر اليه أسرارنا، وهو الحاضر بامتياز.
÷ هذا النوع من الكتابة الذي يطالعنا في كتابيك الاخيــرين يخـــتلف عما عهدناه في دواوينــك الســابقة ومنــها مثلا »نجمة امام الموت أبطأت« و»عزلة الذهب«. لماذا؟
﴿ الشعر لا يزال حاضرا لكن بطريقة أخرى.
÷ هل لإقامتك في باريس التي أشاحت نظرها عن الشعر تأثير في اختيارك هذا النوع من الكتابة النثرية، وكيف تنظر من هناك الى واقع الشعر؟
﴿ اعتمادي على هذه الكتابة يأتي ضمن مسار وتجربة. أما عن الشعر في الأزمنة الراهنة فأراه يخرج من مخبئه، لا يرى أحدا ولا أحد يراه… كيف يمكن ان يكون العكس وقد تغير المعنى الثقافي في العالم؟ منذ الستينيات من القرن الماضي والثقافة تتغير. يطغى عليها طابع التسليع والاستهلاك والمردودية المادية، بالاضافة الى أثر التطور التقني والتكنولوجي، ووتيرة الصور المتسارعة على سطح الشاشة الصغيرة، وطغيان وسائط الثورة المعلوماتية. ألا ينبغي ان نأخذ كل ذلك في الاعتبار في حديثنا عن الثقافة الآن؟ أكرر ما قاله عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيار بورديو أن ما صنع مجد الثقافات الانسانية منذ الفلاسفة الإغريق حتى القرن الماضي، وفي مقدمها الفلسفة والشعر والنظريات الرياضية والفنون المجردة، أصبح هامشيا مهمشا الى أقصى حد. الشعر والفلسفة يحتاجان الى تأمل وأناة، ويحتاجان الى معرفة وحس جمالي، بينما العالم الراهن عجول، يندهش امام البشاعات ويمجدها، ولا وقت لإضاعة الوقت. لقد انقلبت المعادلات الآن، وأصبح الحديث عن الكتاب من أجل ترويجه وتسويقه أهم بكثير من محتوى الكتاب. وهذا لا يمس واقعنا في لبنان والعالم العربي فحسب، بل يطال العالم أجمع. تنشر دور النشر في فرنسا زهاء سبعمئة رواية سنويا. والسؤال: كم عدد الروايات التي تستحق القراءة ضمن هذا الكم الهائل؟ وعلى مستوى الفـــكر والفلــسفة، ما الذي بقي من الفكر والفلسفة في مديــنة الأنوار بعد مرحلة الخمسينيات والستينيات من القــرن العشــرين؟ لكن ما ينقذ بعض أوجه الثقافة في الغرب، حتى الآن، هو وجــود مؤســـسات ثقافية تجعل الثقــافة حية متحــركة ولا تنــفصل عن الفعل التنموي ككل.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى