صفحات أخرىعمر قدّور

هيلاري وميسون وسيسيليا

null


بقلم عمر قدور

لو كان أوباما رجلاً أبيض لما وصل إلى حيث هو الآن، ولو كان امرأة، من أي عرق، لما وصل حيث هو الآن”. هذا الاتهام أطلقتْه جيرالدين فيرارو، وهي من طاقم حملة هيلاري كلينتون الرئاسية. وهو كما نرى، في الجزء الأول منه، يحمل شكوى من عنصرية معكوسة يمارسها الملونون ضدّ العرق الأبيض!.
أما الشقّ الثاني فيحمل التظلم التاريخي لجهة التمييز ضد المرأة، وهذا ما لم يغب عن حملة أوباما إذ تمّ التشكيك بقدرة هيلاري على الردّ على الخط الساخن للبيت الأبيض في الثالثة ليلاً، وكأن سبباً بيولوجياً أصيلاً يمنع المرأة من الردّ في مثل هذا الوقت، أو يفترض بها أن تكون منشغلة بأمور أخرى!. ومع ذلك أن يتنافس على بطاقة ترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة الأمريكية مرشّحان ينتميان، نظرياً على الأقل، إلى الهامش فهذه دلالة يمكن التوقف عندها من أكثر من جهة. امرأة، ورجل من أصل أفريقي، واحد منهما قد يصبح رئيساً لأقوى دولة في العالم؛ من المفترض أن هذا يعكس تحولاً في المجتمع الأمريكي لجهة النظر إلى الهامش العرقي أو الجنسي، خاصة إذا استرجعنا هذا التطور بدءاً من تعيين مادلين أولبرايت وزيرة للخارجية في عهد الرئيس بيل كلينتون، مروراً بتعيين كولن باول وكونداليزا رايس، المتحدرين من أصول أفريقية، في مقدمة الطاقم الرئاسي لجورج بوش الثاني، لنصل أخيراً إلى الموقع الأول “الرئاسة”؟

لا شكّ في أن المجتمع الأمريكي بات أكثر قبولاً بما يعكّر “بياضه”، سواء أتى ذلك من الإثنيات الملونة، أو من النساء “على الصعيد الرمزي السائد يمكن اعتبار النساء نوعاً من إثنية ملونة”. لكن هذه الدلالة ليست مطلقة، ففي ولاية الميسيسيبي مثلاً فاز أوباما بـ91% من أصوات الزنوج إجمالاً، بينما فازت هيلاري بـ69% و74% من أصوات الرجال والنساء البيض على التوالي. وهذه الإحصائية تبين أن انقسام الأصوات تأثر بشكل ملحوظ بقضيتي العرق أولاً والجنس ثانياً، والحال أن التباين الطفيف بين برنامجي المرشحين يدفع بالفوارق الشخصية إلى الصدارة. لندع التحليلات السياسية التفصيلية لأصحاب الشأن، فوجود منافِسة قوية على الرئاسة، سواء فازت أو لم تفز، يفتح الباب على علاقة المرأة بالسلطة، آخذين بالحسبان انتماء المرأة إلى الهامش البطريركي، وتمثيل السلطة للمتن في أعنف أشكاله.

للإنصاف علينا أن نتذكّر النساء اللواتي خضن معارك انتخابية في دول المركز الغربي، وهنا تحضر بقوة رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر التي كرّست نمطاً في السياسة نُسِب إليها، وأقلّ ما يُقال في هذا النمط أنه الأكثر تشدداً ومحافظةً في السياسة الإنكليزية خلال عقود. في فرنسا لم تفلح الاشتراكية سيغولين رويال في الفوز في الانتخابات الرئاسية، على العكس من المحافظة أنجيلا ميركل التي أصبحت مستشارة لألمانيا، أي أن اليسار الأوربي، باستثناء دول الشمال، لم يفلح في إيصال امرأة إلى المقعد الأول، وهذا الأمر جدير بالتوقف عنده وعند دلالاته، وربما يجوز القول إن النساء المحافظات، وأحياناً الأكثر إخلاصاً للقيم المتشددة، امتلكن الحظ الأوفر في الوصول إلى الحكم. أي أنهن، على نحو رمزي، ضحين بأنوثتهن في سبيل السلطة.

ما تقوله مناسبة ترشّح هيلاري للرئاسة هو أن وجود المرأة في السلطة لم يصبح اعتيادياً بعد، بدليل النقاشات التي تفتح في كل مناسبة من هذا النوع، ومردّ ذلك من جانب آخر إلى عدم حدوث تغيير جوهري في مفهوم السلطة ذاته، وليس مستغرباً في هذا السياق أن التاريخ احتفظ بنماذج الحاكمات اللواتي أثبتن حضورهنّ وفق المفهوم الذكوري، وفي مقلوب لذلك تحضر المقولة الشهيرة المنسوبة لوالدة أبي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة: “ابكِ كالنساء مُلكاً لم تحافظ عليه كالرجال“.

بالإضافة إلى الاعتماد المضمر على إرث بيل كلينتون تركّز هيلاري، في جانب أساسي من حملتها الانتخابية، على إقناع الناخبين بخبرتها السياسية، بحكم وجودها السابق في البيت الأبيض كسيدة أولى. ومع أن موقع “السيدة الأولى” لا يُعدّ موقعاً سياسياً، ولا يُكسِب خبرةً سياسية بالضرورة، إلا أنه يصلح أيضاً لاختبار علاقة المرأة بالسلطة، لأنه يتيح لها هامشاً من الفعالية، ويضطرها أيضاً إلى الكثير من الالتزامات البروتوكولية التي تقتضي أحياناً تنازلات عن الحرية الشخصية، وعلى هذا يبرز نزوع صاحبته إلى السلطة من عدمه. لعل أكبر اختبار واجهته هيلاري، وهي في موقع السيدة الأولى، هو فضيحة زوجها مع مونيكا لوينسكي، وإذا تجاوزنا الحساسية الشخصية تجاه هذه المسألة فإن هيلاري، بحكم موقعها، كانت أمام اختبار النموذج الذي تريد إيصاله إلى الآخرين؛ أن تقف بجانب زوجها، وتقدّم له الدعم وهو يكذب تحت القسم، هذه رسالة عن إخلاصها للقيم العائلية التقليدية، وإخلاصها لموجبات السلطة. وللتذكير فإنها كسبت تعاطفاً واسعاً من الرأي العام، بسبب ظهورها بمظهر الزوجة المخدوعة، ولكن المتسامحة أيضاً.

لو افترضنا أن السيدة كلينتون أخذت موقفاً مغايراً، كأن تطالب بالانفصال والتعويض، فهل كنا سنشاهدها تتنافس بقوة على منصب الرئاسة؟ أغلب الظن أن هذا لن يحصل، فالتقاليد السياسية السائدة تغلّب القيم العائلية على الحرية الشخصية، كما أن برنامج هيلاري الانتخابي يدلّ على موقعها ضمن السائد، فهي وإن كانت ضمن التوجه العام للحزب الديمقراطي، إلا أنها أقرب إلى الوسط في تيارات الحزب. امرأة من الطبقة الوسطى تسعى إلى الصدارة، محامية لامعة يُشار إليها كواحدة من المحامين المائة الأوائل في الولايات المتحدة، لا ترضى بأن تكون سيدة أولى سابقة، لا تقبل بالظلّ أو بالهامش، بل تكافح لتصبح سيدة البيت الأبيض، هذا هو النموذج الذي تقدّمه هيلاري.

يصعب على الكثيرين والكثيرات مقاومة إغواء السلطة، فالسلطة هي القوة والرفاه، وقد أثبت حب السيطرة مراراً تغلبه على حب الحرية. ومع ذلك حظيت النماذج التي تعالت على الحكم بالاحترام، إما لندرتها أو لأنها ترضي النوازع المكبوتة تجاه الأنظمة، ومن هذا سنجد أن التراث العربي حفظ أمثولة ميسون بنت بحدل الكلبية، ومن الطريف الذي لا يخلو من مغزى أن ميسون لا تزال تثير سجالات على صفحات الانترنت حتى الآن.

لبيتٌ تخفق الأرواح فيه

أحبّ إليّ من قصرٍ منيفِ

ولبسُ عباءةٍ وتقرُّ عيني

أحبّ إليّ من لبسِ الشفوف

هذا مطلع القصيدة المشهورة المنسوبة إلى ميسون، وهي تعلن تذمرها من العيش زوجةً للخليفة المشهور معاوية بن أبي سفيان، أي سيدةً أولى في عصرها. وبما أن الشعر كان المنبرَ الإعلامي آنذاك، فإن إشهار موقفها له دلالة توازي دلالة الموقف بحد ذاته، وهو كما نرى موقف شخصي وطبقي في آن واحد، وكأنما لا يغيب على بالها أنها في موقع من يقدّم المثال للآخرين، والأخريات طبعاً.

سننتظر طويلاً حتى تأتي سيسيليا “ساركوزي”، وليست بعيدة عنا الضجة التي حدثت إثر طلاقها من الرئيس الفرنسي الحالي. ربما تكون سيسيليا أشبه بالفتاة الهاربة من المدرسة، مع أنها تعلمت في أرقى المؤسسات التعليمية، وتحديداً تلك التي لا يغيب عنها القدّاس اليومي ودروس البيانو. لا تنتمي إلى الهامش الطبقي، لكنها تتحدر من أبوين مهاجرين، ما يجعلها في الهامش الفرنسي، وهذا ما لا يؤرّقها إذ تفخر بأن عروقها لا تحتوي على قطرة دماء فرنسية. الزوجة الوحيدة التي لم تصوّت لزوجها في انتخابات الرئاسة، إذ حجبت عنه صوتها في الدورة الانتخابية الثانية، بعد أن ساهمت بقوة في حملته وكان لها نفوذ في تعيين وترقية بعض مساعديه. هكذا تبدو سيسيليا محيِّرة في السياسة، مثلما هي محيّرة على الصعيد الشخصي. حيرة يبددها تصريح سابق لها تقول فيه: “دور السيدة الأولى لا يلائمني، إني شخصية غير ممتثلة سياسياً”. وفي الواقع يصعب أن نصف سلوكها بالسلوك المضاد، على غرار نصّ ميسون السابق مثلاً، فنفورها من دور السيدة الأولى لا يتقنّع بحمولة إيديولوجية، ولم تصرّح عقب انفصالها عن ساركوزي بأي تصريح يحمل دعوة تبشيرية، كل ما فعلته بحسب وصف صديقة مقرّبة لها هو أنها:”أكلت بشهية بادية، كما لو أن حملاً زال عن كاهلها بتخلّيها عن حياة لم ترد يوماً أن تعيشها”. توصف بالمزاجية، وربما الوصف الأنسب هو إحساسها بفردانيتها على نحو يحررها حتى من الترويج لهذه الفردانية، وإذا كانت هيلاري تقدّم النموذج الطموح الذي ينافس الرجل في معقله، وكانت ميسون ترفض السلطة وامتيازاتها الطبقية، فإن فردانية سيسيليا تبعدها عن تقديم المثال، ولعل المفارقة تكمن هنا بالضبط إذ تقترح نموذجاً مغايراً وجديداً، من حيث أنها لم تشأ ذلك!.

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى