نهوض الإثنيّات صنيعة إرادات الساسة
عمر كوش
يقدم كارستن فيلاند في هذا الكتاب قراءة جديدة للعديد من المفاهيم الحديثة، المتعلقة بالإثنيات والأمم والقوميات والدول، ويتتبع مسار تغايرها مع صعود الأصوليات والإثنيات، والكيفية التي جرى وفقها تسييس الإثنيات، بل وأثننة السياسة كذلك، خصوصاً مع صعود انهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وصعود نجم الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى، مسلحة بإيديولوجية راديكالية تغييرية، وتسعى إلى بسط هيمنتها على العالم.
ويتخذ المؤلف أوضاع كل من البوسنة والهند وباكستان حقولاً لدراسته عن الإثنيات والأقليات والدين، حيث يغرق كتابه في تبيان تفاصيل الصراع في البلقان وخصوصاً في البوسنة، إضافة إلى الهند وتشكل باكستان ومناطق أخرى، استناداً إلى محوري “الإثنية” والدين كمحركين للصراع، مع أنهما استخدما ووظفا توظيفاً إرادوياً على مرّ التاريخ الإنساني. لكنه يتجاوز حدود الوصف المجرد لدراسة الحالة الخاصة بالبوسنة والهرسك والهند وباكستان، كي يطرح استنتاجات بالنظر إلى طبيعة الصراعات المستقبلية، ويحاول تحليل التصور الخاص بالكتل الكبرى من حيث كونها عناصر فاعلة متماسكة منطقياً، كالفئات الإثنية والأمم الإثنية، والحضارات، وما شابهها.
ويجري المؤلف بحثاً مقارناً في أشكال تكوّن القومية الإسلامية وصولاً إلى نقطة الأزمات الحاسمة المتمثلة في تكون دولة باكستان عام 1947، وحتى نقطة الأزمات العابرة في البوسنة والهرسك بعد اتفاقية دايتون عام 1995. وفي الحالة الهندية تتجاوز الدراسة حدود تأسيس دولة باكستان فتعالج نتائجها، وسياسة البلاد وعقائدها، حتى نهاية السبعينيات أيضاً.
وينهض مفهوم الإثنية على التقاط سمة مميزة أصلية أو أساسية لدى مجموعة من البشر، بهدف جعلها وسيلة تضاد رئيسية مع مجموعات أخرى تعيش في ذات الحيّز الجغرافي. ويصار أن تضاف سمات أخرى، ثانوية، إليها كي تتم عمليات التوظيف والتعبئة السياسية. وأول هذه السمات هي الدين، حيث لا يشكل الدين سمة فقط، بل عقيدة جامعة، وقد تمكن القوميون الهندوس في الهند من رفعه إلى مستوى سمة رئيسية، بغية تحولهم إثنية معزولة أو متماسكة حيال الإثنيات الأخرى التي تعيش بجوارهم.
ويشتمل مفهوم “الأصلي الأساسي” في الكتاب على “الإثنية”، وعلى الانتماء الديني الذي ينسب إليه المرء، على حد سواء، من دون حلول وسط. وعليه يعتبر المؤلف أنه من الممكن الإشارة إلى “الإثنية” والإرهاب الأصولي الإسلامي على أنهما أنموذجان من النماذج الدنيا العائدة إلى النموذج الأصلي الأساسي. ويظهر مفهوم “الإثنية” بوصفه مفهوماً متغيراً تابعاً، لذلك يجري التحقق في السمات المميزة التي تسخر لرسم الحدود بين المجموعات “الإثنية”، وفصل بعضها عن بعض في البوسنة والهرسك وفي الهند. ولما كان الدين في كلتا الحالتين يمثل وسيلة التضاد الرئيسية، فإن التصوير يبدأ بدخول الإسلام إلى هذه الأقاليم، ثم تلحق به تلك العوامل التي أدت إلى زيادة حدة التناقضات “الإثنية”، مثل تكون الأساطير التاريخية، وإضفاء الصفة النموذجية المعيارية على اللغات، بل ومقايسة اللغات، وإخضاع الصراعات اليومية المبتذلة لمنهج محدد.
ويلاحظ المؤلف أن البرامج الإيديولوجية للقومية الإثنية والأصولية الإسلامية، سطحية، حيث الأجوبة تبدو بسيطة، والأهداف واحدة. فالخير والشر، والصديق والعدو، يتحدان بسرعة ووضوح. وكذلك كانت البرامج الانتخابية للأحزاب القومية الإثنية في البوسنة والهرسك، على الدوام، أكثر إيجازاً وإجمالاً من برامج خصومها الأصغر، من الليبراليين أو الديمقراطيين الاجتماعيين. وعلى الأغلب لا يقدم القوميون الإثنيون، مثل الأصوليين المتدينين، تصوراً بناءً، مفصلاً لمسألة كيف ينبغي أن يكون مظهر المجتمع أو الدولة، وكيف ينبغي أن يتم الوصول إلى التقدم الاجتماعي والاقتصادي. وكلتا الإيديولوجيتين ترتكزان إلى مجرد سمات أصلية أساسية يسهل استدعاؤها في الظاهر، كالدين، ولون البشرة، واللغة، الخ. فالمسألة لا تحتاج إلى مناقشة أو بحث، ولا إلى تكوين للرأي يقوم على الدأب وشدة المراس لتكوين فئة من الأتباع والأنصار. ولذلك يسدّ القوميون الإثنيون ـ أو حتى الأصوليون الإسلاميون ـ في حالة الشك أيضاً، فراغاً سياسياً بسرعة أكبر، كما حدث في يوغوسلافيا المنهارة. ويبدو التضادّ مع الآخر مقنعاً خلال طرفة عين. ومع ذلك فحين يُسقط المرء من حسابه “الدولة القومية” أو، في الحالة الأخرى، “الدولة الإسلامية”، ينهار البناء كله.
وتعاني كلتا الإيديولوجيتين من النزعة الاختزالية، التي تفرط في تبسيط الأمور والاستهانة بالمصاعب، إضافة إلى النزعة إلى الأحكام المطلقة. إنهما تجسدان نزعة إلى اختزال المفاهيم السياسية والنظرات الفلسفية، ونزعة إلى المطلق في مضمار العنف وإضفاء المشروعية “الأخلاقية”. وكثيراً ما يشار إلى النزعة القومية، ولاسيما في قالبها المتكامل على أنها ديانة العصور الحديثة، أو أنها ديانة بديلة، وهذا أحرى أن يجعل كلتا الظاهرتين أكثر قابلية للمقارنة.
وتتجلى أوجه شبه كثيرة في استراتيجيات التجنيد والتحشيد في حالة “الصراعات الإثنية” وفي حالة الأصولية الإسلامية، حيث يتوجه الناشطون نحو الجماهير الأكثر فقراً والأقل ثقافة من المجموعة السياسية المستهدفة لديهم. في حين أن الموجهين أنفسهم يرجعون، في الغالب، إلى أوساط من الطبقات الوسطى المتعلمة، من أهل المدن، بل كثيراً ما يكونون من بين أوساط المثقفين. وعلى الرغم من أن الإيديولوجيات تتغذى كثيراً، وبحكم الضرورة، من المصادر الثقافية والدينية، أو شبه الدينية، فهي تطمح إلى أهداف سياسية حصرية، تستبعد سواها. ولذلك قلّما تجدي محاولات مكافحتها على الصعيد السياسي حصراً.
وبعد غزو العراق، والانهيار الكامل لنظام الحكم، مع ما أعقبه من الاحتلال، وما يشبه الاستعمار، كان هناك فراغ سياسي كاف لوضع تغيرات في اتجاه جديد فيما يتعلق بدولة ديمقراطية مدنية. لكن الذي حصل هو تسرّب عناصر دينية وعناصر أصلية أساسية أخرى إلى المضمار السياسي، وعلى وجه الخصوص بعد عقود من التوزيع غير العادل للموارد والسلطة.
ويرى المؤلف أن سياق الحلول الموضوعة للصراعات يفضي إلى تنمية مجتمع مدني شديد التماسك، وتنمية فهمٍ للأمة يقوم على الديمقراطية المدنية، وتنمية المؤسسات السياسية التي تعكس وتنمي الاستعدادات المنطقية والعقلانية. في حين أن النموذج الآخر يتضمن تصنيفاً قبلياً وموضوعياً، مدعماً، للبشر في معسكرات قومية إثنية. والنموذج الأول إنساني النزعة فيما الآخر أصلي أساسي. وما من شك في أن الأخير هو الذي فرض نفسه في أكثر من موضع.
ويتتبع المؤلف ما يسميه “المرحلة المتقدمة من تكون القومية الإسلامية” الذي بلغ ذروته في الهند بتكوين دولة، ملاحظاً أنه يمكن أن ينتهي، في البوسنة والهرسك، بمثل هذه الدولة. وفي هذا الطور كان القول الفصل لمؤيدي القومية الإثنية من المسلمين، على نحو مطرد الزيادة، وكانت “الإثنية” تقوم بدور المتغير المستقل. ويضع المؤلف شخصيتين رئيسيتين من المسلمين، وهما علي عزت بيكوفيتش (1925)، في البوسنة والهرسك ومحمد علي جناح (1876 ـ 1948) في الهند، أحدهما مقابل الآخر، قياساً إلى دوافعهما السياسية، وتصوراتهما الخاصة بالقومية، وموقفهما من الإسلام.
ولا ينسى المؤلف التطرق إلى البدائل المقابلة لتكون معسكر مبني على القومية الإثنية، وتجسدها في دولة، معتبراً أن تكون القومية الإسلامية، وإضفاء التطرف على الصراعات لا يخضعان لحتمية تاريخية، ولا تترتب عليهما، من باب أولى، النتيجة المتمثلة في دولة إسلامية. وعليه فإن النظرة إلى البدائل نظرة لا يستغنى عنها، كونها تنعكس في موقف جزء كبير من سكان البلقان والسكان الهنود، وفي المشروعات السياسية المقابلة. ولا شك في أن العوامل المحفزة الخارجية كانت تعمل لصالح تكون دولة قومية ـ إثنية ـ وفي طليعتها الحكم الاستعماري البريطاني وانحلاله، وانحلال الاتحاد اليوغسلافي ودور القوى الدولية الفاعلة في حرب البوسنة.
المستقبل – الاحد 23 آذار 2008