الأزمة المالية العالمية ومصير السياسات الليبرالية الجديدة
ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وضربت هوروشيما وناغازاكي بالقنبلة الذرية الأميركية حتى بدأ ما يسمى بالحرب الباردة عام 1947التي سخنتها الحرب الكورية بداية الخمسينيات من القرن العشرين.
كان النظام الإمبريالي يعمل بين الحربين على أساس الصراع والتنافس بين الدول الإمبريالية الرئيسية حول اقتسام العالم ، لكن نهاية الحرب العالمية الثانية وما تركته من دمار أوربا واستسلام اليابان وظهور القنبلة الذرية وسيطرة مالية وعسكرية وسياسية للولايات المتحدة الأميركية ، خلق معادلة جديدة بين الدول الإمبريالية الرئيسية تعمل وفق ديالكتيك الاندماج/ المنافسة مع هيمنة الاندماج تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية ، هذا من جهة ومن جهة أخرى أدت أزمة النظام الرأسمالي ، البادئة ملامحها مع انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 حتى تفجرها في 1929 والناجمة أساساً عن الصراع بين مركزين رأسماليين عالميين واحد قديم في لندن خرج مضعضعاً ومديوناً من الحرب العالمية الأولى وآخر جديد صاعد في نيويورك، إلى انتصار الفاشية عام 1922بإيطاليا والنازية الألمانية عام1933، بما تعنيه الاثنتان من لجوء الرأسمالية لحلولها القصووية أمام المد الاشتراكي العالمي بعد ثورة أوكتوبر عام1917 ولحل المشاكل الاقتصادية والسياسية بوسائل عنيفة وتحت شعارات قومية شوفينية، ما أدى للميل نحو الاتجاه الرأسمالي الجديد عبر وصفات جون مينارد كينز بالثلاثينيات عند ضفتي الأطلسي للتخلي عن النموذج الليبرالي التقليدي لصالح تدخليّة الدولة في العملية الاقتصادية.
في سنة 1979 وعلى أثر ارتفاع أسعار النفط العالمية بفعل الحرب العربية الإسرائيلية 1973 وبفعل ضغط الحرب الباردة المستمر وبفعل “رعاية” الرأسمالية لجميع الطبقات في الدول الرئيسية وما تبع ذلك من دورة كساد عالمي أطلقت الولايات المتحدة وبريطانيا سياسات جديدة عرفت لا حقاً بالنيوليبرالية أو السياسات الليبرالية الجديدة والتي اكتملت أبعادها خلال عشر سنوات تزامناً مع انهيار جدار برلين. كان الهدف من السياسات الجديدة الخروج من الكساد العالمي عبر كف يد الدولة عن التدخل في حركة رؤوس الأموال وحركة الأسواق وإطلاق موجة مهووسة من المضاربات المالية و الخصخصة مرفقة مع أيديولوجيا ليبرالية جديدة محملة بخرق بالية من الوعظ الديني المسيحي المهوّد واليهودي الرث والرجعي ، لا بل العنصري.
تزامن كل ما سبق مع حدثين بارزين على المستوى الدولي ، الأول: بداية توقف نمو الاقتصاد السوفييتي الذي وصل إلى الصفر عام 1981 ، والثاني : انتصار الثورة الشعبية الإيرانية سنة 1979 تحت قيادة طبقة “البازار” ممثلة برجال الدين الشيعة أو “آيات الله” . وحدث لاحقاً انهيار الاشتراكية السوفييتية وتفكك الدولة السوفييتية وظهور ما سمي لاحقاً بالإسلام السياسي بكل أشكاله المقاوم للاحتلال و السلفي و الجهادي وتراجع دور الحزب السياسي الحديث بكل تياراته الوطنية الديمقراطية القومية والشيوعية والماركسية .
كان من نتائج هذين الحدثين تحويل الولايات المتحدة سياستها من سياسة التوكيل إلى سياسة التدخل المباشر في المناطق الإستراتيجية والحيوية .
وجاءت أزمة الرهن العقاري الأخيرة وما نتج عنها من أزمة سيولة مالية ومصرفية عالمية لتظهر مرة أخرى خطورة المضاربة وخطورة إطلاق يد رأس المال المضارب ليتلاعب بمصير ملايين البشر في البلدان المركزية والطرفية .
إن السياسات الليبرالية الجديدة التي أطلقت سنة 1979 التي قادت النظام الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة لشن سلسلة من الحروب على كل من أفغانستان ويوغسلافيا والعراق هي نفسها السياسة الليبرالية الجديدة التي أطلقت يد رأس المال المضارب ليعبث بمصائر ملايين البشر. وكان من أولى ضحاياه انهيار أسواق المال في جنوب شرق آسيا وانهيار ما سمي بالنمور الآسيوية تايلند وماليزيا وكوريا الجنوبية وأندونيسيا سنغافورا وهونغ كونغ وتايوان ، الخ .. سنة 1997 وقبل ذلك أزمة المكسيك ولاحقاً انهيار العملة في الأرجنتين.
والحقيقة أن التزايد الهائل الذي حدث في حركة رأس المال الدولي المضارب في السنين الأخيرة إنما يعود إلى عولمة أسواق النقد من خلال تحرير المعاملات المالية وسرعة حركة وانتقال رؤوس الأموال في لمح البصر عبر وسائل الربط والاتصالات الالكترونية بين مختلف أصقاع العالم وصعوبة مراقبة هذه الحركة من قبل البنوك المركزية . كما عضد نمو هذه الحركة تطور الابتكارات المالية التي وفرت أشكالاً مختلفة ومتعددة من الاستثمار المضارب. كما عكست هذه الحركة النشاط الواسع الذي قامت به الشركات عابرة القوميات في هذا المجال وكذلك نشاط ما سمي بصناديق الاستثمار التي يصل عددها الآن على صعيد العالم حوالي 770 صندوقاً استثمارياً ضخماً ، تم حشد الموارد المالية لها من شركات التأمين وصناديق التأمين والمعاشات وكبريات الشركات الصناعية . وهذه الصناديق تتعامل الآن في أصول مالية تتجاوز بكثير حجم الاحتياطات الدولية التي تملكها البنوك المركزية في مختلف دول العالم.
هذا النشاط المضارب الهائل الذي أصبحت تتسم به الحركة الدولية لرؤوس الأموال وعلى نحو يتجاوز بكثير حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة ، أصبح يشير إلى حقيقة خطيرة جداً، وهي أن الشطر الأكبر من الأرباح التي أصبحت تحققها كبريات الشركات الصناعية في العالم لم يعد يتحقق في مجال الإنتاج الحقيقي ، بل في الاستثمار في حافظة الأوراق المالية. كما أن هذا النشاط المضارب يقف وراء كثير من الأزمات النقدية والمالية التي حدثت لبلاد كثيرة كالمكسيك عام 1994 ودول النمور الآسيوية 1997 وارتفاع أسعار النفط غير المبرر فعلياً وأزمة الغذاء العالمي التي انفجرت منذ أشهر. كل ذلك بسبب ما تسببه المضاربة من نشاط جنوني في ارتفاع الأسعار دون مبرر حقيقي ، ثم هبوطها مرة واحدة، تماماً مثل بالون ينتفخ أكثر من اللازم ولا بد أن تأتي لحظة انفجاره.
وتأتي الأزمة المصرفية والمالية الراهنة لتشير إلى أن هناك حدوداً للمضاربة المالية ولتشير إلى خطر المضاربة والعقل المضارب على البشرية وعلى النظام الرأسمالي ذاته.
لقد شملت المضاربة سوق الرهن العقاري وعقود النفط وبعض المواد الغذائية الإستراتيجية والحيوية كالأرز والقمح وغيرهما . وما أزمة الغذاء العالمي التي مازالت أفاعيلها قائمة إلا أحد وجوه لعنة المضاربة ورأس المال المضارب الذي وصل إلى أرقام فلكية ومخيفة.
المضاربة في قطاع العقارات في الولايات المتحدة وتخصص بنوك لتمويل الاستثمار في هذا القطاع أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات بشكل جنوني وتحقيق أرباح فاحشة ، وحين أرادت البنوك الاستثمارية استعادة جزء من السيولة المالية وجدت نفسها عاجزة وانهارت وأفلست ما انعكس أزمة ثقة في الإقراض بين البنوك الدولية وأزمة سيولة عالمية واستنزاف مالي للنظام الرأسمالي لم يشهد لها مثيلاً. وما الهبوط الحاد في أسعار النفط إلا علامة على انهيار المضاربة في قطاع النفط مما يشير إلى أن ارتفاع سعره كان مفتعلاً ومبالغاً فيه تحت ضغط المضاربة المالية
إن الأزمة المالية والمصرفية التي ولدتها أزمة الرهن العقاري والمضاربات المهووسة تشير إلى التالي:
1-حدود المضاربة وخطرها الشديد على البشرية وعلى النظام الرأسمالي ذاته
2-تأكيد طبيعة الدولة الرأسمالية الاحتكارية كلجنة في خدمة الشركة الاحتكارية وفي خدمة رأس المال المضارب والمجرم ، وأنها بخطتها للإنقاذ / الموافق عليها من الكونغرس الأميركي/ عبر تخصيص 700 مليار دولار تؤكد هذه الطبيعة المنحازة لصالح كبار الأثرياء
والمضاربين وتجار الحروب ودعاة العسكرة من الإمبرياليين الرأسماليين. إن الحكومة الأميركية بخطتها الإنقاذية من أموال الميزانية العامة إنما تنقذ المضاربين المجرمين على حساب عامة الشعب الأميركي ، تنقذهم كي يعيدوا الكرة مرات عديدة.
3-بداية نهاية أيديولوجيا الليبرالية الجديدة ونهاية نفوذها على مثقفي المراكز والأطراف الرأسمالية وتراجع تأثيرها على السياسات الاقتصادية الحكومية في البلدان المتخلفة. وبداية نهاية “أيديولوجيا العولمة” والخصخصة.
4-الطابع الطفيلي الذي تتسم به الرأسمالية المعاصرة
أخيراً نريد القول أن الدرس المهم الذي يجب تعلمه من تاريخ الرأسمالية هو أن المشاكل الكبرى (الاقتصادية والمالية) لا تؤدي إلى انهيارها انهياراً أتوماتيكياً [اقتصادياً].. إن مصير الرأسمالية في النهاية سوف تحدده فقط الطبقات الناشطة داخل المجتمع والأحزاب القائمة على هذه الطبقات والتي لديها الإرادة والقدرة على استبدال آلية النظام القائم.
هيئة التحرير طريق اليسار