أزمة الرأسمالية ومهماتنا
سلامة كيلة
من المؤكد بأن الأزمة التي تعيشها الرأسمالية هي أكبر من كل أزماتها السابقة، وهي أخطر كذلك، لكن لا يجب أن نصل إلى وهم أنها سوف تفضي إلى انهيار الرأسمالية. ربما تفضي إلى إعادة ترتيب القوى في إطار الرأسمالية، وربما إلى التعفن، لكنها لا تقود إلى نهاية الرأسمال ولاشك في أن الانهيار المالي كبير، وهو لم يبلغ مداه بعد حيث يمكن أن يفضي إلى الركود طويل المدى، وقد يؤدي إلى اصطفافات عالمية جديدة، ولسوف يدفع إلى تحقيق تحولات في الحراك الاجتماعي العالمي. لكن لا يجب أن نستنتج بأن الرأسمالية على شفير الانهيار، فهذه مسألة أخرى، مسألة لا تتعلق بـ الحتمية التي كانت ولازالت منزرعة في عقول الشيوعيين، والتي تنطلق من أن الاشتراكية لا تتحقق إلا بانهيار الرأسمالية. وهم هنا كانوا ينطلقون من عفوية مفرطة، ويؤسسون على قدرية مطلقة.
والمشكلة كانت في أن هذه العفوية وتلك القدرية هما الطريق للوصول إلى الاشتراكية، وأي دعوة لدور إرادي تعني انتصار الإرادوية، التي كانت تعتبر رذيلة. وهنا سنلمس بأن الحتمية الاقتصادوية هي التي كانت محرك هذا التصور، الذي يتحوّل بالضرورة إلى إرادوية مفرطة، لأنه يقرر بالحتم أن انهيار الرأسمالية (الذي هو ضروري للوصول إلى الاشتراكية وفق ذلك)، يفضي إلى الاشتراكية. حيث تصاغ الصيرورة وفق رؤية (أو رؤيا)، وتصبح مهمة الواقع تحقيقها.
ولقد بدا أن لا نهاية للرأسمالية على ضوء انهيار النظم الاشتراكية، والهجوم الشامل الذي كان يتقصّد القول بأن الرأسمالية هي نهاية التاريخ، وأن لا مكان للاشتراكية على هذه البسيطة. وانجرف كثير من الشيوعيين وراء هذا الوهم، وتحولوا إلى الليبرالية الفظة كما تطرحها الشركات الاحتكارية الإمبريالية. ليبدأ الهجوم، من قبلهم، على الاشتراكية، وليبدأ السعي لتكريس ليبرالية متوحشة. لكن الرأسمالية في مأزق، كانت ولازالت، وستبقى، لأنها تكوين تناقضي، وهو يولد حفاري قبره، ليس العمال فقط، بل والمال ذاته، الذي بات عبئاً ثقيلاً يقوم بدور تدميري هائل. لهذا كان من الطبيعي أن تدخل في أزمة عاصفة من جديد، على خلاف كل الأوهام التي قامت على أنها نهاية التاريخ، وبالتالي أقفلت البحث عن الاشتراكية، وكرست أنها وهم، أو على الأقل أنها ليست على الأجندة التي غطتها الرأسمالية من أولها إلى آخرها.
الرأسمالية تدخل في أزمة فهذا يعني أنها كومة من التناقضات، وأنها يمكن أن تهيئ الأرضية لحفاري قبرها، لكنها لن تنهار فجأة، هكذا ودون سابق فعل. وكل انقلاب للقول أنها وصلت إلى نهايتها لن يعني سوى سيطرة الأوهام، التي هي سمة عامة حكمت كل السياسات في الماضي. لكن لا تستطيع أن نقفز عن أنها في أزمة، وأزمة عميقة وخطيرة، وهذا واضح اليوم أكثر من أي وقت مضى، لكن السؤال الذي يفرض ذاته هو هل من الممكن أن يتحقق تجاوزها؟ وكيف يمكن تجاوزها؟ كيف يمكن أن يتحقق الانتقال إلى الاشتراكية؟
والسؤال مبني على أساس أن الانهيار الاقتصادي مهما كان ضخماً لا يقود إلى نهاية الرأسمالية، وبالتالي فإن الانهيار والتعفن والدمار ممكن، لكن ليس الانتقال إلى نمط بديل. ليس الوصول إلى الاشتراكية. إن الأزمة يمكن أن تهيئ وضعاً ثورياً لكنها لا تقود إلى أن ينتصر بديل آخر، لأن هذا البديل لا يتحقق عفوياً، بل يحتاج إلى طبقة تحمله. إلى أن يصبح جزءاً من رؤية طبقة وهي تخوض الصراع ضد الرأسمالية.
هنا تأتي مهمة العمال والفلاحين، ومهمة الشيوعيين، وبالأساس هنا موقع النظر إلى الصراع الطبقي. حيث أن الأزمة الاقتصادية تصعد من حدة الصراع نتيجة الآثار العميقة التي تحدثها في قطاع كبير من البشر، هم العمال والطبقات الوسطى في المراكز، والعمال والفلاحون والطبقات الوسطى في الأطراف. وهي لحظة تراكم في هذا الصراع. أو أنها تُراكِم من أزمات تلك الطبقات، ومن فقرها وتهميشها، وتوسع من حجم العاطلين عن العمل. بالتالي يمكن أن تخلق لحظة ثورية، لكن هذه ليست كافية لتحقيق التجاوز. إنها لحظة مهمة، لكنها ناقصة، لأن من يحوّلها إلى فعل حقيقي هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الحزب البديل. الحزب الذي يقدم بديلاً للرأسمالية، ورؤية لطريق تجاوزها. ويصبح جزءاً فعلياً من نشاط العمال والفلاحين الفقراء في صراعهم ضد الرأسمالية، وبالتالي تصبح رؤيته هي المهيمنة في مسار تحقيق التغيير.
وما من شك في أن أزمة تطال هذا البديل، بدأت منذ زمن، وتفاقمت مع انهيار النظم الاشتراكية، وتلاشي الشرعية التي كانت تعطيها لنمط من الماركسية كان يدخل الأحزاب في متاهات، ويجعلها قوة ضغط على أبعد تقدير وليس قوة تغيير. مما يؤشر إلى أن منطقاً وسياسات وممارسات يجب أن تنتهي لأنها لم تنجح في الماضي وباتت منه. وإذا كان الصراع الطبقي يتفاقم على الصعيد العالمي، وعلى الصعد القومية، فإن الضرورة تفرض تحقيق نقلة في الوعي، وأخرى في السياسة، وثالثة في الممارسة التنظيمية. نقلة تؤسس لرؤية وبنية وممارسات جديدة. من أجل تطوير هذا الصراع انطلاقاً من بديل واضح وممكن. فهذا هو الطريق من أجل تجاوز الرأسمالية، وهو الآن ممكن لأن الأزمة الاقتصادية سوف تنعكس على كل المجتمعات عبر تزايد الإفقار والبطالة من جهة، كما عبر ضعف سيطرة الطغم الإمبريالية من جهة أخرى.
وإذا كانت أميركا اللاتينية تميل نحو اليسار منذ زمن قريب، فإن الوضع في المرحلة القادمة سوف يفتح الأفق لإمكانيات كبيرة لدوره في مختلف الأمم، من الأمم الرأسمالية ذاتها إلى كل الأطراف. وهو الأمر الذي يفرض طرح السؤال حول وضعنا كعرب. فهل تستطيع القوى الماركسية أن تعيد تشكيل ذاتها، وبلورة رؤيتها، بما يجعلها تدخل الصراع الطبقي بوضوح وفاعلية؟ هذه هي مهمتنا الراهنة.
الحوار المتمدن