الغراب
حسام عيتاني
لم يكن في وسع المخرج الفرنسي هنري جورج كلوزو تسمية الأمور بأسمائها أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا، فجاء فيلمه »لو كوربو« (الغراب) في العام ١٩٤٣ قصة رمزية عن قرية صغيرة تجتاحها رسائل سامة، غير موقعة، تكشف أسرار السكان الشخصية والعائلية من دون أن يتمكن الضحايا من معرفة هوية المرسل، على الرغم من شبهات دارت حول أحد مواطنيهم.
شكّل الفيلم إدانة عنيفة للمجتمع الفرنسي الذي تشير قرية الفيلم اليه، وهو المجتمع المتعاون مع النازيين والمنغمس في لعبة الوشاية والنميمة الى الحدود التي قادته الى الانقسام على نفسه ورمت به محطما بين أيدي المحتل. لقد لحق الانهيار الأخلاقي بالانهيار السياسي والعسكري، واكتشف الفرنسيون بعد استعراض هتلر لقواته في جادة الشانزيليزيه أن السلم السابق للاحتلال انما كان في واقع الأمر بيئة مريضة تفشت فيها الأمراض التي ظهرت على شكل مئات الآلاف من العملاء والمتعاونين، من أعلى هرم الدولة الى أبعد زاوية في البلاد. ظل فيلم كلوزو يشكل حرجا للفرنسيين طوال عقود ومادة كاشفة لنفاقهم ولادعاءاتهم السياسية والأخلاقية.
في لبنان اليوم من يدعو وسائل الإعلام الى الاقتداء به والى »تسمية الأمور بأسمائها« والخروج على نوع من التضامن المهني الذي يسمح، في رأيه، بتغطية الأخطاء والارتكابات المخلة بأخلاق لا يحددها. في المبدأ، لا يخلو الموقف هذا من وجاهة. بيد أن الوجاهة هذه تحتاج الى عدد من التوضيحات.
فالأخلاق مسألة شديدة النسبية، ولا يجمع عليها البشر منذ بدء الخليقة. واذا ارتاح البعض الى تعريفات سعت الى محو النسبية هذه بسيف اليقين الايديولوجي، على غرار تلك التي وضعها تروتسكي على سبيل المثال في مقالته المشهورة »أخلاقنا وأخلاقهم« برد الغموض والتردد في المجال الأخلاقي الى البورجوازية الصغيرة المتعثرة والمرتبكة، فإن هناك من الشواهد ما يجعل الأخلاق المستندة الى الوضوح الايديولوجي »غير أخلاقية« بدورها، بمعنى خروجها على منظومة القيم التي يسلم بها جمع من الناس.
فالتنديد بما يفعل الخصم وإخراج مثالبه الى العلن، كمهاجمة أحزاب معارضة لنهج الفئات الحاكمة، هو عمل أخلاقي اذا لم يكن في خزائن المُنَدد ما يتطلب الإخفاء عن الأبصار. أما ملء الدنيا صراخا وشتائم بداع وبلا داعٍ، والإصرار في الوقت عينه على عدم السماح بالكشف عما يخبئ الصارخ وراء ظهره، فهذا سلوك غير أخلاقي.
مثال آخر بسيط: اذا اعتاد صبي على إلقاء القاذورات أمام باب منزل الجيران، فهذا يعطيهم المبرر »الأخلاقي« لمعاقبة الصبي بما يتناسب مع حماقته، حتى لو كان الجيران هؤلاء من المعروفين بمعاداة قواعد النظافة وحتى لو كان بيتهم نموذجا لانعدام الوقاية الصحية. فحق الصبي في زيادة قذارة البيت تعادل حق أهله في توجيه صفعة اليه.
بطبيعة الحال ان هذا المثال يفترض أن الصبي المشاكس يأتي من بيت نظيف وانه انما يقوم بفعلته اذاً إحساسا منه بالضيق حيال القذارة. لكن ما يجري في بعض وسائل الاعلام اللبنانية اليوم لا ينطبق عليه هذا التحديد، بل ان أمرا آخر يكاد يكون مناقضا هو السائد.
فإطلاق العنان للشتامين بذريعة أنهم يسمون »الأمور بأسمائها« يتغذى في واقع الأمر من مسألتين: الاولى هي أن من تصيبهم الشتائم ينتمون في أكثر الأحيان الى بيئة سياسية وثقافية تخشى السجال ولديها الكثير مما تخفيه وتخافه، فيفضلون اللجوء الى الصمت بذريعة أنهم »أرقى« من أن ينحدروا الى مستوى الشتّام وأسلوبه. يأتي هذا معطوفا في الغالب الأعم على هزال المكوّنات الثقافية والمعرفية، ما يحول دون استخلاص »الضحايا« لمضمون الهجمات التي يتعرضون لها وتوضيب الرد عليها على نحو مقنع.
المسألة الثانية التي تساهم في ازدهار »أدب التشهير« هي ظاهرة لا يمكن عزلها عن الرثاثة السائدة في الإعلام والسياسة في العالم العربي. فإذا كان أكثر الإعلام مسيّراً في خدمة أنظمة استبدادية وتابعة، فقد يكون من البداهة بمكان ألا يفرز المناخ العربي »الثوروي النقوصي« (أي ذاك الذي يقرن الثورة على الواقع بالردة على كل تعبيرات التقدم)، سوى ركام من الشتائم التي لا يعرف أصحابها يمينهم من يسارهم (بالمعنى الحرفي للكلمة). فتتداخل الصفات المنتزعة من سياقاتها بالاتهامات التي ما أنزل الله بها من سلطان. لكن هواة النوع يحصّلون في المقابل ما يسد شبقهم الى هذا النوع من الأدب التلصصي البورنوغرافي الذي »يسمي الأمور بأسمائها«، أدب »الغراب« من دون النقد الذي انطوى عليه لحالة الهزيمة الشاملة أمام المحتل. أدب الغراب المنتصر، اذا جاز القول.
السفير