ما يحدث في لبنان

تحديات الأمن وتوظيف السياسة

سليمان تقي الدين
فريق من اللبنانيين من بينهم رئيس الحكومة عاتب على دمشق. ما أن عرض التلفزيون العربي السوري وقائع التحقيقات مع المجموعة الإرهابية التي ارتكبت جريمة تفجير منطقة القزاز حتى كرّت سبحة التصريحات مشككة بالوقائع، مستنكرة عرض التحقيقات على التلفزيون، مستهجنة »الاتهامات«، مندّدة بالأهداف التي تتوخاها دمشق، »عرقلة لمسيرة العلاقات« أو »مستبقة التحقيق الدولي«!!
أما العتب من وسيلة التعامل فهو على قدر المحبة كما يقال. لكن التشكيك بالنوايا والأهداف والتبرؤ من »الاتهامات« فهو يدلّ على المرارة التي يجلبها المنطق الاتهامي، خصوصاً عندما يكون غير مسند إلى وقائع وأدلة مادية ثابتة. لعل الفريق اللبناني الذي أبدى هذا الحجم من الانزعاج عليه أن يتذكر ما تسبّب به من آثار سلبية في علاقة البلدين والشعبين من حملاته الاتهامية السابقة والحالية، سواء فيما خصّ مسلسل الاغتيالات أو التفجيرات أو نشاط الجماعات الإرهابية. على أي حال ليس هدفنا الدفاع عن دمشق من أي جهة كانت، فلها ربٌ يحميها، نحن ندافع عن المصلحة الوطنية اللبنانية أولاً وأساساً عندما ندعو إلى استواء العلاقات على قاعدة بناء الثقة والتعاون في مواجهة تحديات جدية مشتركة بات يجسّدها الإرهاب الذي يضرب في لبنان وفي سوريا. علينا أن نتفق بداية ونقرّ بوجود جماعات إرهابية بشكل أو بآخر مثلما هو الحال في معظم الدول العربية. يمكن للإرهاب أن تحركه أو تستفيد منه هذه الجهة أو تلك، هذا الجهاز لمخابرات هذه الدولة أو تلك في حادثة معينة، لكنه قطعاً ليس صنيعة مباشرة من خارج عالمه الخاص. نحن نجزم أنه لا يمكن لأولئك الذين يفجّرون أنفسهم في عمليات انتحارية قد وضعوا مصيرهم في يد هذه الدولة أو هذا النظام أو هذه الجهة السياسية أو غيرها.
إن أسوأ ما يمكن الوقوع فيه أن نتعاطى مع ظاهرة الإرهاب وكأنها يمكن أن تخدم قوى سياسية معينة. فلقد أثبتت التجربة أن بعض من تساهل مع الإرهاب أو تسامح معه أو شجعه بوسيلة أو بأخرى تحوّل ضحية كبرى من ضحاياه. إن مستوى الاستعداد غير المحدود لدى هذه الجماعات المتطرفة لمواجهة الآخر عبر قتل النفس يجعل من المستحيل عقلنة هذه الظاهرة وضبطها والتعايش معها في إطار أي نظام سياسي يحرص على الاستقرار. فالجهات التي لم تدرك مسبقاً هذه الأبعاد الخطيرة للتعبئة الدينية المتشددة أصبحت اليوم في مواجهة تداعيات هذه التعبئة. تنتج عن هذا الفهم ضرورة التعاون بين كل القوى من أجل تطويق هذه الظاهرة ومحاصرتها بهدف القضاء على إمكاناتها المادية و»تجفيف منابع تغذيتها« كما صار متعارفاً عليه.
لقد صار معلناً ومعروفاً منذ أحداث الضنية عام ١٩٩٩ حتى أحداث نهر البارد ٢٠٠٧ وما تلى ذلك من عمليات على الجيش اللبناني، أن التطرف الديني والمنهج التكفيري قد استشريا في بعض الأوساط الاجتماعية والمذهبية وفي بيئات تعاني الفقر والتهميش والحرمان من الحد الأدنى من الخدمات الإنسانية. فمن العبث مثلاً إنكار وجود مثل هذه التنظيمات داخل المخيمات الفلسطينية وأثر ذلك على المحيط. لكن الأجواء المذهبية التي تصاعدت في البلاد جرّاء
الخطاب السياسي الصدامي، هي أيضاً قد ساعدت على اتساع هذه الظاهرة واحتضانها. ليس مفيداً الآن إنكار الظاهرة والسياق الذي انتشرت فيه، وليس مفيداً تبادل الاتهامات حول من تخدم، لأنها ليست إلا حالة سياسية »عدمية« مدمرة لكل بناء سياسي عاقل وعقلاني، يؤمن بالحد الأدنى من الحرية ومن صيغ العيش المشترك وحريص على الاستقرار ويرفض منطق الفوضى.
بعد أحداث الشمال هبّت الحكومة اللبنانية لمعالجة المشكلات الاجتماعية التي افتضحت جراء انفلات حبل الأمن وارتفاع مشهد البؤس والحرمان إلى صدارة المنابر الإعلامية. لقد خمدت نشاطات الحكومة وتراخت عزيمتها فيما الأزمة الاجتماعية تتفاعل وتستقطب المزيد من الشرائح إلى بيئات الفقر والتمرد بأشكال مختلفة. إن الفاشيات الطائفية سواء تغذت من بُعد ديني أم من أفكار أصولية أخرى، هي في نهاية المطاف بيئات للعنف والصدام والتناحر.
من أهم وظائف الحكومة أن تتدارك الأزمات وأن تستبق المشكلات وأن تتهيأ لمواجهة الأخطار. لكن ما نسمع ونرى لا يتجاوز حدود الخطابات السياسية الغافلة عن كل شيء. لقد كان موقف بعض الفرقاء السياسيين مناقضاً لردة فعل الأجهزة الأمنية اللبنانية التي أخذت أمور »الاعترافات« بجدية ولاحقت من اتهموا بالمشاركة في أعمال الإرهاب. كما أن التنسيق الأمني من خلال المؤسسات قد بدأ بصورة صحية وسليمة من خلال الوزيرين اللبنانيين المعنيين. عسى أن تغلب في نهاية المطاف مسالك التعاطي الإيجابي والتنسيق في وجه الأخطار المشتركة وتتراجع عمليات التوظيف السياسي التي صارت مكشوفة الأهداف وسلبية النتائج.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى