من »الطائف« إلى »الدوحة« وما بعد
فواز طرابلسي
يخطئ من يستخف بمدى ما أحدثه اتفاق الدوحة من تحولات في الحياة السياسية ومدى ما فتحه ويفتحه من احتمالات وإرادات تحويل وتعديل في النظام السياسي.
مثلما في لعبة الشطرنج حيث يؤدي تحريك عدد من الأحجار على اللوحة إلى إعادة ترتيب باقي الأحجار وتحرّكها، كذلك حصل الأمر مع الاتفاق الجديد. ومع أن هذا الحراك في المواقع وعلاقات القوى لم يستقر على حال بعد، إلا أنه يستحق مسحاً أولياً يمكّننا من تبيّن أفضل لما يجري حولنا، وعلى حسابنا.
أفسح انتخاب الرئيس ميشال سليمان في المجال أمام تشكيل حكومة وحدة وطنية أقرّت مبدأ الثلث المعطّل. كان ذلك إيذاناً بمغادرة النظام السياسي صيغة الترويكا الرئاسية المبسّطة إلى توازع للصلاحيات والحصص بين مراكز الدولة الأولى ومؤسساتها وأجهزتها التشريعية والإدارية والتنفيذية أكثر تركيباً وتوسعاً وتعقيداً.
ومع ذلك ظل الكل يتمسّح بالطائف جازماً أن كل شيء يجري تحت سقفه، فيما الكل يسعى لخرق السقف ويتحيّن الفرص للتسلل من خروقه تعديلاً لموقع قوى هنا أو اقتناصاً لزيادة حصة هناك. فكانت الحصيلة عدداً من التعديلات التي لا يستهان بها على اتفاق الطائف. والمفارقة في الأمر أن مادتها جميعاً تقريباً مأخوذة من النظام السياسي للجمهورية الأولى السابق على الحرب. لا يدل ذلك إلا على براءة الحكّام من أية لفتة خيال أو ابتكار أو تطلع إلى أمام. وهو يحمل نكوصاً إلى الخلف لا يزيد الأمور إلا تعقيداً ويفاقم من استعصاءات النظام وشلل حركته.
في الانتخابات النيابية، استعيد قانون العام ١٩٦٠ القائم على قاعدة القضاء. ليس العيب الأوحد في هذا القانون أنه يهدّد بزيادة الاستقطاب الطوائفي والمذهبي، كما ذهب كثيرون عن حق. إنه يكرّس أيضاً ترييف اللبنانيين ويزيد عزلهم عن تمثيل مصالحهم المهنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعبير عن تطلعاتهم في اختيار مرشحيهم. بل إن قانون ١٩٦٠ المستعاد، في وضع الانشقاق الحالي بين الكتلتين الآذاريتين، وضع اختيار النواب في قبضة ناخبين كبار لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين يقرّرون مصير معظم الدوائر سلفاً. وأما الانتخابات في الدوائر وعلى المقاعد الباقية فتنذر بمعارك شرسة لن تخلو من دور كبير للمال السياسي ـ ومصادره الخارجية متنوعة ومتعددة وليست حكراً على طرف واحد ـ ناهيك
عن تدخلات القوى الخارجية ذات المصلحة في تغليب فريقها على الفريق الآخر وعين كل منها على التسويات الإقليمية. والمؤكد في هذه المعارك السياسية بالمعنى العاري للسياسة، أي صراعات القوى المجرّدة، أنه يمكن الجزم بأن القضايا الرئيسية التي تهم المواطنين اللبنانيين سوف تكون بمنأى عنها. بل سوف تغرق في مباريات أشبه بمباريات كرة القدم حيث يريد كل فريق لفريقه أن يربح وكفى.
على أن جديد اتفاق الدوحة وما ينبئ به لا يقتصر على الهيئة التشريعية. انتقلت المحاصصة إلى طور جديد داخل السلطة التنفيذية ذاتها المنقسمة أصلاً انقساماً رجراجاً بين رئيسي الجمهورية والوزراء. وها أن المحاصصة الطائفية تدخل الوزارة نفسها بطريقة غير مسبوقة. فمع أن أحداث أيار الدامية الماضية انطلقت شرارتها من القرار الحكومي المتعلق بشبكات اتصالات المقاومة، إلا أن معاركها انجلت عن اقتحام المعارضة السلطة التنفيذية من خلال نيلها الثلث المعطل من المناصب الوزارية.
لم يبقَ منصب رئاسة الدولة بمنأى عن مشاريع الإصلاح والتعديل. فقد انتخب الرئيس ميشال سليمان في مناخ ماروني ومسيحي يتنافس أقطابه على الدعوة إلى استعادة الحقوق المسيحية عموماً وفي مقدمها صلاحيات رئيس للجمهورية قوي يفترض فيه إخراج جماعته من حالة »الإحباط« المديدة.
في طليعة عوامل استعادة القوة هذه مشروعان إصلاحيان يستعيدان هما أيضاً إلى صلاحيات رؤساء الجمهورية خلال الجمهورية الأولى وما قبل الحرب: حق رئيس الجمهورية في حل مجلس النواب من جهة أولى وتكوينه كتلة نيابية موالية له يسعى إلى أن تكون هي الأكثرية البرلمانية من جهة ثانية.
يعيدنا هذان المشروعان إلى المشكلة نفسها التي خلّفها نظام الطائف دون حل. فقد فكّك النظام الجمهوري الذي يضع صلاحيات استثنائية بيد رئيس الجمهورية، على غير ما قدرة على إعادة تركيبه. فتولد نظام هجين كل تعديل فيه يزيده هجانة واستعصاء. لم يحل الطائف نظاماً برلمانياً محل النظام الرئاسي، ما يحوّل الرئاسة الأولى إلى منصب فخري. ولا هو ذهب في النظام الرئاسي إلى نهايته المنطقية بإقراره انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب. بديلاً من قيام النظام السياسي على مؤسستين صادرتين عن الانتخاب الشعبي ـ الرئيس والبرلمان ـ آثر أهل الطائف توزيع السلطة التنفيذية بين رئيسي الجمهورية والوزراء. هكذا صار منصب الرئاسة الأولى ضعيف الصلاحيات لكنه بمنأى عن المحاسبة. فالهيئة التي تنتخبه لا يحق لها أن تحاسبه. ولا هو مسؤول عن تقديم حسابات عن ممارساته تجاهها.
أما إذا وضعنا جانباً الطابع الهزلي للنزاع حول مقر نائب رئيس الوزراء وصلاحياته، فيبقى أن منطق تعميق الازدواج في المناصب والمسؤوليات والصلاحيات وزيادة التضارب بينها قائم دائماً. هذا في وقت باتت الوزارة فيه، ائتلافية أكانت أم غير ائتلافية، أشبه ببرلمان مصغر يبتعد أكثر فأكثر عن دوره بما هو فريق عمل لتنفيذ سياسات معينة ينتظمه حد أدنى من التضامن بين أعضائه. هذا هو المؤدى العملي لتحويل الحكومة ذاتها إلى ميدان لتوازع حصص مذهبية وطوائفية وحقوق نقض بين مكوّناتها.
يضاف إلى هذه كلها بدعة فصل الوزارة عن النيابة التي تطل علينا بين فترة وأخرى. ولدت أواخر عهد الاستقلال الأول وعادت إلى الظهور خلال عهد الرئيس شارل حلو بعيد أزمة إفلاس بنك إنترا. قيل الكثير تبريراً لمنع الجمع بين النيابة والوزارة ليس أقله تخصيص النائب بالخدمات والوزير بالكفاءة. والاعتراض هنا هو على المنع. فالنقاش بين دعاة المنع وخصومهم يدور مدار أفراد ذوي أدوار مختلفة أي أنه يروّج خارج الدائرة التي تتشكل منها آلية التشريع والتنفيذ الديموقراطية وهي دائرة رسم السياسات وتنفيذها.
هذا بعض من الكمّ من التعديلات ومشاريع التعديلات والتشريعات تصحيحاً لاتفاق الطائف بالارتداد إلى الصيغ والتشريعات التي جاء الطائف أصلاً لتصحيحها أو طرحها جانباً على اعتبار أنها من العوامل التي دفعت إلى الاقتتال الأهلي. لعله يدفع إلى التفكير بأن تصحيح »الطائف« بواسطة »الدوحة« بالانتكــاس إلى ممارســـات وتشريعات وصلاحيات ما قبل »الطائف«، أقـــرب إلى دق الــماء بالماء، وأن نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بات هو كله بحاجة ماسة إلى التغيير.