العولمة تنحر الهنود
سعد محيو
المواطن الهندي “أ. نير” (70 عاماً) يبتلع السم هو وزوجته بسبب غرقه في ديون البطاقات الائتمانية. وبعدها بأيام يُقدم ابنه وابنته، وهما في أواسط الثلاثينات، على الانتحار أيضاً ولكن شنقاً هذه المرة للأسباب نفسها.
في مدينة بوبيندرا يعمد سمسار أسهم إلى تفجير نفسه هو وزوجته وطفلهما الرضيع عبر إشعال أنبوبة غاز. وفي مدينة حيدر أباد تفيد الشرطة أن أمير علي فيراني انتحر بعد أن هوى مؤشر “سينسكس” إلى أقل من 8000 نقطة الشهر الماضي، ووجد معلّقاً في مروحة سقف غرفته. وكذا فعل سمسار البورصة باراغ تانا في مدينة ماباي هو وزوجته الحامل.
مثل هذه القصص باتت حدثاً يومياً في الهند، حيث انتحر أكثر من 120 ألف شخص العام الماضي وحده، وحيث يُقدم 1000 مزارع على إزهاق أرواحهم كل شهر. السبب ليس فقط الأزمة المالية العالمية الراهنة، بل أولاً وأساساً الظروف المعيشية القاسية التي بات يعيشها الهنود بسبب انغماس بلادهم حتى الثمالة في نظام العولمة الرأسمالية.
هذه التطورات قد تكون حدثاً عادياً في أي دولة أخرى تمر في مرحلة انتقال إلى الرأسمالية المتطرفة التي لا تعني في خاتمة المطاف سوى المنافسة القاسية التي لا ترحم، وحرب الجميع ضد الجميع، والبقاء للأقوى. لكن أن يحدث ذلك في الهند فالأمر مدعاة للكثير من الدهشة والتساؤل. إذ إن هذا البلد العملاق مستسلم منذ 10 آلاف سنة إلى فلسفة دينية (الفيدا) تقوم برمتها على التقشف والتأمل الروحي المتجاوز للعالم المادي، ووحدة الوجود والمخلوقات، والرضوخ لإرادة القدر أو الآلهة (سمّها ما شئت).
ثم إن كيان الهند السياسي الحديث الذي برز عقب حرب الاستقلال، قام برمته على مبادئ المهاتما غاندي المحبذة للسلام الاجتماعي، وكفاف العيش، والاعتماد على الأرض والماعز لسد رمق الحاجات المادية.
بيد أن هذه الصروح الثقافية – الايديولوجية التاريخية تنهار الآن كبنيان كرتوني هبّت عليه فجأة عاصفة عاتية.
كتب جونسون توماس، وهو مدير مؤسسة للوقاية من الانتحار في مامباي: “ثمة الآن موجة عاتية من الانتحارات في الهند ليس بسبب الضغوط المالية وحسب، بل أيضاً بسبب الصعوبات المترافقة مع العولمة ومع حياة أصبحت تعتمد برمتها على الديون. كثير من الناس باتوا ينفقون أكثر بكثير مما يكسبون”.
قد يقال هنا إن هذه ضريبة التقدم الرأسمالي أو الثمن اللازب للحداثة. فبريطانيا، التي كانت أول دولة صناعية في الغرب، كانت في القرن التاسع عشر تستغل عمل أطفال لايتجاوزون الخامسة أو السادسة من العمر لمدة عشر أو اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وتدمّر حياة الريفيين لخدمة الرأسمالية الصناعية الناشئة. وكذا فعلت كل الدول الغربية وحتى الشرقية كالصين وروسيا واليابان.
كل ذلك صحيح. لكن في الهند يبدو المشهد أسطورياً في مأساويته. فالحديث هنا لا يدور عن حفنة ملايين سيكونون في عداد الخاسرين من التحديث الرأسمالي، بل عن أكثر من 500 – 600 مليون نسمة يسقطون حالياً في فخ الديون التي تنصبها لهم الشركات العالمية المنتجة للحبوب المعدّلة جينياً. ومع الديون يأتي الفقر والضغوط النفسية وفي النهاية الانتحارات بالجملة كما يحدث الآن.
فهل هذا ثمن مقبول لوعد الحداثة؟
لاتسألوا آلهة الهند. فهي الآن حانقة ومزمجرة وتستعد للانتقام من 12 ألف سنة من تاريخ “الفيدا”.
الحليج