ثورة تونس

عن القمع والتعذيب وعن تونس الخضراء

راسم المدهون
كم من الكتب والمجلدات يمكن أن تتسع حقاً لحكايات القمع التي تعرّض لها وما يزال ملايين البسطاء من المواطنين العرب على أيدي حكامهم؟
وما هي صورة حياة النخب الثقافية العربية تحت وطأة هذا القمع الذي يضعهم بقسوة خارج أدوارهم الثقافية، ويعزلهم عن محيطهم الطبيعي؟
أسئلة وأسئلة طرحتها ثورة تونس الشعبية، وما بدأ ينثال خلالها من حكايات مرّوعة لجرائم ضد الإنسانية مارستها الأجهزة الأمنية التونسية في سعيها لإطالة عمر الدكتاتور ومواصلة نهب البلاد نهباً منظماً، فيما كان المواطنون يعيشون أزمات معيشية خانقة حرمتهم من حاجاتهم الإنسانية البسيطة، وجعلتهم طيلة عقود يعيشون بغالبيتهم الساحقة تحت خط الفقر بحسب كل التقارير والإحصاءات الدولية المحايدة.
في عقود سابقة قدّر لنا أن نقرأ بعضاً من شهادات مثقفين عرب بارزين على قمع تعرضوا له في السجون والمعتقلات. يومها كانت تلك الشهادات تواجه من بعض المثقفين بأسئلة غريبة: لماذا الآن؟ ولمصلحة من؟
في الذاكرة كتاب المصري طاهر عبد الحكيم “الأقدام العارية”، والفلسطيني معين بسيسو “دفاتر فلسطينية”، وكلاهما واجه الأسئلة المستنكرة ذاتها، والتي رأى أصحابها أنها تخدم نظام أنور السادات الذي كان يقود حملة مكارثية على نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وكان منتقدو عبد الحكيم وبسيسو يرون أن كتابيهما يضعفان روح المقاومة عند المواطنين العرب بفتحهما باب نقد غير إيجابي وفي غير موعده.
هي حكاية “لمصلحة من”، التي طالما تكفلت بإقناع النخب الثقافية والسياسية العربية أن ترحّل شهاداتها دائماً إلى “الوقت المناسب”، والذي كشفت الأيام والعقود أنه وقت لا يجيء، بل يظلُ قابلاً لتأجيل متدحرج فيما آلة القمع تواصل دحر أحلام متتالية من الشباب العرب الذين يجرؤون على رفع أصواتهم ضد القمع والبطالة والإذلال.
في الكتابين نقرأ حكايتين صغيرتين تكشفان بعضاً من ذلك القمع الوحشي الذي تعرض له لسنوات بعض من أبرز المثقفين المصريين والفلسطينيين الذين انتموا للشيوعية، أو حتى كانوا من المقتنعين بالأفكار الاشتراكية: يروي طاهر عبد الحكيم في “الأقدام العارية” أن حرس السجن كانوا يصرخون في المعتقلين بعبارة لم يسبق لهم أن سمعوها من قبل فيهرع المعتقلون القدامى، ولا يعرف الجدد ماذا يفعلون لأنهم لا يفهمون المقصود بتلك العبارة الغريبة “صابك اليمك”!!!.
هكذا كان حراس السجن ينهالون بهراواتهم على رؤوس أولئك “الأغبياء” حسب مقاييسهم، والذين يزعمون أنهم مثقفون، ولكنهم رغم ثقافتهم وشهاداتهم العليا لا يفهمون “صابك اليمك”، فكيف يمكن لعاقل أن يأتمنهم على مصير وطن؟؟!!!.
هكذا سيهرع المعتقلون الجدد لزملائهم من المعتقلين القدامى يسألونهم، فيكون الجواب مدهشاً: صابك اليمك تعني حان وقت الطعام نسبة لكلمة اليمك التي تعني الطعام بالتركية، التي يبدو واضحاً أنها رسّخت بعض مصطلحات لا تزال متداولة في السجون والمعتقلات.
أما الشاعر الفلسطيني معين بسيسو، فقد كتب “دفاتر فلسطينية”، عام 1977، ونشرت على حلقات في دورية “شؤون فلسطينية” التي كانت تصدر عن “مركز الأبحاث” في منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن تصدر بعد ذلك في كتاب مستقل، وفيها شهادة الشاعر على المرحلة ذاتها التي تناولها كتاب طاهر عبد الحكيم.
يروي معين بسيسو أن واحدة من وسائل التعذيب التي كانت معتمدة في “سجن الواحات الصحراوي” هي وضع قطعة لحم على رأس المعتقل الحليق بالطبع، ثم إطلاق صقر جارح لالتهامها بعد أن يكون السجان قد أحكم إلصاقها برأس المعتقل.
سيكتشف العرب صباح الخامس من حزيران 1967 أنهم عراة في صحراء المعركة، ويدفعون من دمهم واقتصاداتهم المهلهلة أثماناً باهظة للقمع الذي عاشوه في العواصم البعيدة عن خط النار.
هل تبدلت الصورة بعد ذلك؟
كثر من المحسوبين على النخبة الثقافية العربية وقعوا في الشرك ذاته: تأييد أنظمة استبدادية كرمى لشعارات وطنية ترفعها وتعلن من خلالها عداءها لإسرائيل، وبالنتيجة قرأنا وسمعنا تأييداً لاجتياح قوات صدام حسين للكويت، وهو الاجتياح الذي كان بداية الغزو الأميركي الواسع لمنطقتنا.
في التجربة التونسية اليوم ملفات باهظة من ممارسات القمع والتعذيب في المعتقلات السرية، أما في شوارع المدن والقرى التونسية، فالفقر سيد الحياة وملمحها الأبرز، الذي لا تستطيع عين زائر أن تخطئه. تدهشني اليوم روح الجلد والصبر التي تتحلى بها جموع الثائرين على النظام المتسلط الذي مثّله زين العابدين بن علي. هناك دأب على المتابعة، وقراءات حصيفة لأبعاد ما يجري، والأهم النية الصادقة في اجتثاث جذور النظام، ورفض رموزه وممثليه والمستفيدين منه.
أعتقد أن من أولى مهام التغيير في تونس اجتثاث ثقافة القمع، وتأسيس حكم تداولي يعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة، ومنطق المساواة بين جميع المواطنين التونسيين بغض النظر عن انتماءاتهم ومواقعهم الاجتماعية أو السياسية. في هذا المجال سيكون مهماً العمل على استرداد المال العام الذي اختفى من خزائن الدولة والمؤسسات الرسمية، كما سيكون من المهم والضروري محاكمة من ارتكبوا جرائم ضد المواطنين أو مارسوا القمع والتعذيب ضدهم، سواء في المرحلة الطويلة من حكم زين العابدين بن علي، أو خلال المواجهات الشعبية مع أفراد الأمن التي مارست قمعاً وحشياً في محاولتها ردع الجموع الثائرة والمحافظة على رأس النظام.
هؤلاء لا يجوز أن يفلتوا من العقاب العادل من أجل بناء حياة سياسية واجتماعية جديدة في تونس، سمتها الأهم العدل والمساواة وروح التسامح.
كلّ من تابع التطورات التي أعقبت مغادرة طائرة الرئيس المخلوع مطار تونس، رأى حجم القمع والتخريب الذي مارسه عشرات بل آلاف من فرق الموت التي جندها بن علي، والتي أطلقها لتمارس القتل والنهب والتخريب في محاولة يائسة لإرغام الشعب التونسي على الركوع والتسليم بعودته.
بدأنا هذه المقالة بالقمع وشهادات المثقفين عنها، وها نحن نعود لنؤكد مرة أخرى أن الأحرار هم وحدهم من ينتصرون، وهم وحدهم من يستطيعون اجتياز حواجز التخلف واللحاق بركب البلدان المتقدمة، فلا إبداع حقيقياً بلا حرية حقيقية.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى