كتاب: مقدّمات في قراءة مستقبل الدولة الوطنية العربية
كرم الحلو
الدولة الوطنية ومستقبلها في العالم العربي مسألة مطروحة منذ مرحلة الاستقلال، ولكنها بعد الثمانينيات من القرن الماضي بدأت تأخذ أبعاداً إشكالية لتتحول الى تحد من أكبر التحديات التي تواجه العرب في المرحلة الراهنة، طارحة »عليهم أسئلة وجودية حاسمة تطاول القومية العربية والمواطنية القطرية وصولا إلى مدى شرعية وواقعية الانتماء العربي الواحد مع تنامي النزعات والاتجاهات ما قبل القومية وما قبل الوطنية، وطغيان العصبويات الطائفية والمذهبية والآتنية من جديد، على التوجه القومي والوطني الذي ميز أواسط القرن المنصرم.
هذا التحدي شكل الموضوع المركزي لكتاب »الدولة الوطنية المعاصرة، أزمة الاندماج والتفكيك« مجموعة باحثين، مركز دراسات الوحدة العربية ،٢٠٠٨ حيث رأى سالم توفيق النجفي ان حالات تفكيك الدولة القومية تعد أبرز موروثات القرن العشرين مع ان هذه الدولة كانت احدى المراحل الرئيسية في بناء وتكوين الدولة الراسخة ما بعد القرون الوسطى. وليس العالم العربي في منأى عن هذه المحاولات التفكيكية المتمثلة في إذكاء الصراعات الطائفية والمذهبية والاتنية ـ العراق نموذجا. لكن ليس بالضرورة ان يتولد عن هذه المحاولات توازن جديد لصالح غايات النظام الرأسمالي المعاصر، فالإرث العربي ـ الاسلامي المكوّن للذات الانسانية ومنظومتها القيمية ذو جذور عميقة في التكوين المجتمعي، والقراءة المتأنية للتاريخ تشير الى ان مساراته تستعيد اتجاهاتها الطبيعية بعد انعطافات مؤقتة لا تعد طويلة في حساباته.
ورأى أحمد محمود ولد محمد أن الدولة في الفكر النهضوي العربي الحديث، رغم عدم تناوله إياها بصورة مباشرة كموضوع مستقل، اذ كانت جزءا من اشكالية عامة هي اشكالية النهضة، قد عالج موضوعات وقضايا تلامس موضوع الدولة. فالطهطاوي ١٨٠١ ـ ١٨٧٣ طرح تصورا للوطن يختلف عن تصور الفكر السياسي العربي القديم الذي شدد على الانتماء الى دار الاسلام، الأمر الذي دفع عبد العزيزالدوري الى القول ان تصور الطهطاوي »لا يخلو من تأثير لمفهوم الدولة القومية«. أما خير الدين التونسي فلا نجد عنده مفهوما محدد المعالم للدولة، اذ ربطها بمفهوم الملك، واستخدم مصطلح »دولة« بمعنى الحكومة، ومصطلح »مملكة« ليعني به الدولة، سواء كانت ذات نظام جمهوري او ملكي. وكذلك اقتصر الفكر النهضوي مع جمال الدين الأفغاني ١٨٣٨ ـ ١٨٩٧ ومحمد عبده ١٨٤٩ ـ ١٩٠٥ على تحديد وظائف الدولة وعناصرها من دون إعطائها مفهوما محددا. أما الكواكبي ١٨٥٤ ـ ١٩٠٢ فلم يطرح هو الآخر مفهوما محددا للدولة، وظل بحثه أكثر ارتباطا بالحكومة منه بالدولة، في ما يذكّر بالتناول التراثي لهذا الموضوع.
وبصورة عامة تفتقر المقاربة النهضوية لموضوع الدولة الى تحديد واضح المعالم للمفهوم وللكثافة النظرية التي يحملها في اللغة السياسية المعاصرة، وقد تجاذبها موقفان أحدهما ليبرالي انتقائي وآخر سلفي تقليدي مع إعادة نظر تأويلية. أما النتيجة فواحدة في كلا الموقفين، وهي عدم الادراك الصحيح والمتكامل لنظرية الدولة الحديثة. وقد نتج عن ذلك مفارقة التضخم المفرط في الاحتفاء بالمسألة السياسية بموازاة فقد فكري في مجال انتاج معرفة نظرية بمسألة الدولة والسلطة والمجال السياسي.
وبالنظر في المجتمع المدني في العالم العربي رأى باقر سلمان النجار أنه من الصعب ان نجد مجتمعا مدنيا في المنطقة العربية مستقلا عن إرادة الدولة، وقادرا على التأثير فيها، فلا مجتمع مدنيا من دون ديموقراطية، ولا ديموقراطية من دون حضور ووجود لقوى وتجمعات سياسية من غير الأحزاب الرسمية. إلا ان الكثير من التنظيمات القائمة في بعض الأقطار العربية، ان هي الا واجهات لقوى وتجمعات قبلية او دينية او عرقية او مذهبية. وتبقى مساحة الجرية المتاحة في العالم العربي محدودة، فسلطة الدولة ما زالت مطلقة وغير خاضعة للمساءلة او التداول. وقد أشار تقرير »بيت الحرية« لعام ٢٠٠٥ إلى أن دولتين عربيتين فقط تقعان في خانة الدول ذات الحرية السياسية الجزئية هما الكويت ولبنان. لكن لا بد من التأكيد ان خريف الدكتاتورية قد أزف في المنطقة العربية، وان كان ربيع الديموقراطية لم يولد بعد بشكله المتكامل، رغم أنها تطرق وبشدة أبوابا مغلقة في هذه المنطقة.
وربط شفيع بومنيجل الفهم الموضوعي لمجمل القضايا السياسية في العالم العربي بالوقوف على حقيقة الدولة فيه، وفي ما إذا كانت تمثل هوية جامعة لمواطنيها، الأمر الذي دفع غسان سلامة الى ملاحظة وجود أربع هويات تتقاسم مشاعر الانتماء في العالم العربي، دينية واقليمية ومحلية وسياسية. ما حال دون صهر الدولة مواطنيها في بوتقتها السياسية والثقافية، وأعاق تقديمها نفسها كإطار جغرافي وسياسي نهائي وشرعي لعيش مواطنيها وانتظامهم. ومن هنا استمرار البنى التقليدية القبلية والطائفية والمذهبية والجهوية، التي يمثل استمرار فاعليتها علامة قاطعة على فشل الدولة في تحقيق نقلة مجتمعها من مستوى المجتمع التقليدي الى مستوى المجتمع العصري، وبالتالي في تكريس الديموقراطية. إذ كيف يمكن ترسيخ الديموقراطية في دولة لا تزال تبحث عن هويتها؟ فإطلاق الحريات والاعتراف بالتعددية السياسية والاجتماعية في مثل هذه الدولة لا يفضي الى إحلال الديموقراطية، بل غالبا ما يؤدي الى نتائج عكسية غاية في الخطورة.
ويطرح علي خليفة الكواري من أجل تجنب عوامل الانقسام في المجتمعات العربية، مفهوما جامعا للديموقراطية باعتبارها منهجا ونظام حكم، قادرا على مراعاة عقائد هذه المجتمعات. فثمة حاجة، في رأي الكواري، لمفهوم عربي للديموقراطية تنحسر فيه ألقاب مثل العلمانية والاسلاموية ولا يتعدى مقاصد الدين. الا ان الكواري رأى ان هناك عددا من الاشكاليات تتطلب المقاربة حتى يتم قبول الديموقراطية، مثل اشكالية تعارض مبدأ الشعب مصدر السلطات مع الأحكام القطعية للشريعة الاسلامية او إشكالية الفصل المصطنع بين الوطنية والديموقراطية، واتخاذ الديموقراطية سبيلا لتفكيك الهويات الجامعة واختراق الأمن القومي، وأخيرا ضمان مشاركة الأقليات والاعتراف بثقافتها دون ان يؤدي ذلك الى تفكيك الدولة الوطنية.
وعرض رائد فوزي أحمود للنظام الحزبي في العالم العربي بوصفه معياراً لتصنيف الدول العربية على أساس الهامش المتاح لمؤسسات المجتمع المدني، ومن ضمنها الأحزاب السياسية، للمشاركة في الحياة السياسية والحكم. فاستنتج ان الأحزاب السياسية في الوطن العربي تتسم بسمة رئيسية مشتركة هي غياب ثقافة الديموقراطية في بنيتها وفي نظرتها للقضايا المعاصرة، وفي عملية اتخاذ القرار حيث يصبح كل اختلاف في الرأي عبارة عن شقاق يتوجب استئصاله. ما أدى الى اختزال الحزب عملياً في شخص رئيسه أو أمينه العام وإحاطته بهالة من التقديس والتبجيل، ولا سيما إذا وصل الى الحكم، الأمر الذي أفضى الى خلق ولاءات وأصحاب نفوذ مقربين بصورة انتشرت معها الجرائم السياسية والاقتصادية في ظل احتكار الحزب لوسائل الإعلام.
وقد ترتب على ذلك ضعف الالتزام الحزبي وافتقار أدبيات الأحزاب الى الواقعية، وغياب برامجها السياسية وتدني تمثيلها للعنصر النسائي الى درجة وصلت في الكويت الى النص بقانون يحرّم مشاركة المرأة في الحياة الحزبية. وبصورة إجمالية لاحظ أحمود ان الأحزاب السياسية في العالم العربي لم تقم بوظيفتها في التعبير عن مصالح الفئات التي تمثلها، ولم تطرح البرامج التي تحيي الحياة السياسية، وتبعث فيها روح المشاركة بين أفراد المجتمع الواحد، للحد من عوامل الاختلاف والتصارع، بل كانت مسرحا للصراعات والمصالح الذاتية لقلة من المنتفعين.
بهذه القراءات الشاملة لمختلف جوانب أزمة الدولة الوطنية العربية المعاصرة، ان لجهة محاولات التفكيك التي تتعرض لها في المرحلة الراهنة او لجهة موقعها في الفكر النهضوي العربي او من حيث مكانة المجتمع المدني والأحزاب السياسية في نسيجها الاجتماعي، يكون الكتاب قد أمسك بالعوامل المؤسسة لأزمة الاندماج في هذه الدولة، في ما يشكل مقدمات لا غنى عنها لدراسة مستقبلها، ومعه المستقبل العربي برمته.
ـ مجموعة باحثين ـ »الدولة الوطنية المعاصرة، أزمة الاندماج والتفكيك« ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ ٢٠٠٨