صفحات أخرى

سمير أمين والإمبرياليّة الأشدّ عنفاً

null

فشاه مراي ــ أ ف ب

لا بدّ لنا، في ظلّ هذه المعمعة التي تحيط بنا، والتي لا تتوقّف عن وضع الولايات المتحدة الأميركية بمصاف الدول الكبرى التي يدعو البعض إلى الاحتذاء بها والتشبّه بديموقراطيتها «العريقة»، على حدّ قول أحد صحافيي قوى 14 آذار، والاحتذاء بحريتها الاقتصادية وبانفتاحها، وفق ما يرى بعض أقطاب تلك القوى،
أن نشير إلى أن ما يغفله أو يتناساه هؤلاء، أن الولايات المتحدة قوة عظمى قامت، وتقوم، قوتها على استنزاف ثروات باقي الأمم والشعوب، وأن اقتصادها، الذي يلج اليوم مرحلة من الركود الطويل المدى، كما استشرف بذلك كبار محلّلي الاقتصاد الأميركي كدايفيد هارفي وجوزف ستيغلتز، أن هذا الاقتصاد الذي تشوبه عيوب بنيوية أساسية وتنخر بناه أزمات هيكلية، هو اقتصاد يعيش على التلاعب بسعر صرف الدولار وبأسعار النفط «العربي»، كما بالاعتماد على اقتصاد «الكازينو»، أي اقتصاد المضاربات المالية أو الاقتصاد الوهمي الذي يفوق بحجمه أضعافاً مضاعفة الاقتصاد الحقيقي القائم على الإنتاج.

إن الولايات المتحدة التي تضرب اقتصادها اليوم أزمة آخذة بالتفاعل، تستخدم مفاهيم يستسيغها قادة العالم الثالث ذوو التاريخ «غير المشرّف»، كالحرية والديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، للتغلغل في تلك المجتمعات والتلاعب بقضاياها المحقّة وتنصيب أنظمة «تابعة» تعمل على تفكيك البنى الاقتصادية لتلك المجتمعات، وإعادة تركيبها خدمة للرأسمال الأميركي المتجوّل، الباحث عن أعلى نسبة للربح، من دون الاكتراث بالحقوق الاجتماعية للعمّال، أو حتى بالحقوق السياسية للمواطنين.

مرحلة جديدة من الإمبرياليّة

إن أبرز من درس ظاهرة التوسّع الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، المدافعة بشراسة عن حقوق كل القوى الرأسمالية المتحالفة، هو الباحث العربي المعروف والرائد في حقله، سمير أمين. يرى أمين أن النظام العالمي لم يدخل مرحلة جديدة «لا إمبريالية»، يمكن وصفها بـ«ما بعد الإمبريالية»، كما ذهب إلى ذلك بعض منظّري الغرب، ولكن على عكس ذلك، يمرّ بـ«مرحلة إمبريالية أشدّ عنفاً بكثير»، أو بتعبير آخر، مرحلة امتصاص ثروات الجنوب من قبل الغرب بقيادة الآلة العسكرية الأميركية، وذلك دون إعطاء شيء بالمقابل.

إن الإمبريالية في الماضي كانت متعدّدة الأقطاب، أي كان هناك مجموعة إمبرياليات متصارعة، وقد نتج عن صراعها حربان عالميتان مدمّرتان، وتقاسمت النفوذ والثروات في ما بينها في الجنوب. أما الإمبريالية الجديدة فهي جماعية، أو بتعبير أدق ثلاثية (الولايات المتحدة الأميركية، أوروبا واليابان)، سائرة بركاب الولايات المتحدة، حيث تتوارى الخلافات بين شركات هذا الثالوث إلى المستوى الخلفي، كي يحتل الواجهة الصراع بين هذا الثالوث وبقية العالم. ومن هذه الزاوية فقط يمكن تفسير غياب المشروع الأوروبي الموحّد في مواجهة مشروع الهيمنة الأميركي، وتبعيته له.

كما أن الفارق بين هذين النوعين من الإمبريالية، هو أن التراكم في المرحلة السابقة قام على أساس مزدوج (مراكز مصنِّعة/ تخوم غير مصنّعة). في حين تقوم المواجهة في الظروف الجديدة للنظام العالمي بين المستفيدين من الاحتكارات الجديدة للمركز (المتمثّلة بالتكنولوجيا، السيطرة على الموارد الطبيعية، الاتصالات، إضافة إلى أسلحة الدمار الشامل)، وبين التخوم المصنّعة ولكن التابعة لهذه الاحتكارات، نظراً لما تتمتّع به هذه الأخيرة من وسائل سيطرة على هذه التخوم.

«إمبراطورية» خارج التاريخ

إن ما يعيبه أمين على أنطونيو نيغري ومايكل هاردت اللذين قالا بقيام «إمبراطورية» (دون إمبريالية)، أي إمبراطورية مقتصرة على الثالوث (الولايات المتحدة الأميركية، أوروبا واليابان)، ومتجاهلة بقية العالم، هو اضطرارهما إلى استخدام تعريف ضيّق جداً للظاهرة الإمبريالية لتقديم فرضيتهما (امتداد السلطة الوطنية إلى خارج الحدود)، دون الإشارة إلى ظاهرة تراكم رأس المال أو إعادة إنتاجه. إن هذا التعريف الضيّق لظاهرة الإمبريالية، وهو تعريف شائع في قسم العلوم السياسية في الجامعات الغربية، وبالتحديد في الولايات المتحدة، يفرّغ القضايا الحقيقية من مضمونها. والخطاب الذي يستخدمانه عن «إمبراطورية خارج التاريخ»، والذي يخلط بين الإمبراطوريات الرومانية، العثمانية، النمساوية المجرية، الروسيّة، أو الاستعمار البريطاني والفرنسي، دون إيلاء الاهتمام بأخذ الفوارق بين هذه «الأبنية التاريخية» بعين الاعتبار، خاصة أن لا وجه مقارنة بين هذه الأبنية، بحسب أمين.

التوسّع العالمي للرأسماليّة

إنّ «التوسّع العالمي للرأسمالية» يعني، بسبب طبيعته الاستقطابيّة، ضرورة تدخّل السلطات المسيطرة، أي بتعبير آخر، تدخّل سلطات دول مراكز النظام في مجتمعات التخوم. والسبب في هذا التدخّل هو أن التوسّع الرأسمالي لا يمكن أن يجري بقوة القوانين الاقتصادية وحدها، بل إن ذلك يحتاج إلى الدعم السياسي (والعسكري إذا لزم) المكمّل، دعم تقوم به دول الرأسمال المسيطر بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. أما هذا التوسّع فهو دائماً إمبريالي، حتى وفق تعريف نيغري للكلمة (أي امتداد السطلة الوطنية إلى خارج الحدود)، ولكن بشرط تحديد طبيعة هذه السلطة، وهي سلطة رأس المال المسيطر.

وهكذا، فإنّ التدخّل المعاصر للولايات المتحدة لا يقلّ، بحسب أمين، إمبرالية عن الغزو الاستعماري في القرن التاسع عشر. إن الهدف الكامن وراء الغزو الأميركي للعراق على سبيل المثال، هو إقامة دكتاتوية (لا ديموقراطية)، خدمة لرأس المال الأميركي عبر نهب موارد البلاد. أما النظام الاقتصادي الليبرالي المعولم فهو يحتاج إلى «الحرب الدائمة» (أو التدخّلات العسكرية المتتالية)، باعتبار أن ذلك يمثّل الوسيلة الوحيدة لإخضاع شعوب التخوم ـ أو الجنوب ـ لمتطلباتها.

أميركا: مركز «الإمبرياليّة الجديدة»

إن للإمبريالية اليوم مراكز ثلاثة متمثّلة بالثالوث (الذي سبق أن أشرنا إليه أعلاه). أما مركز هذه المراكز الثلاثة الذي يعمل على فرض هيمنته، فهو يتمثّل بالولايات المتحدة التي تسعى لفرض «السيطرة الجماعية للثالوث» على مجموع تخوم العالم، وهذه التخوم تمثّل ثلاثة أرباع البشرية. أما أدوات تلك السيطرة التي يديرها هذا المركز، فتتمثّل ببعض المؤسسات المكلّفة من قبل الثالوث بإدارة «النظام الإمبريالي العالمي»، وأهمها:

1ـ منظمة التجارة العالمية (World Trade Organization) ذات المهمة الأساسية التي لا تتمثّل بضمان «حرية السوق» (وهو مفهوم مبهم بحدّ ذاته)، بل بضمان الحرية المفرطة لاحتكارات المراكز، كما بتأليف نظم الإنتاج في التخوم تحقيقاً لهذا الهدف.

2ـ صندوق النقد الدولي (IMF) الذي لا يتدخّل لتنظيم علاقة العملات الأساسية الثلاث (أي الدولار، اليورو والينّ، وهنا نتساءل عن الإجراءات التي اتخذها مع تراجع العملة الأميركية بشكل مخيف، والتي سوف تكون لها آثار مدمرّة على الكثير من المجتمعات والقطاعات الإنتاجية في التخوم)، بل نجده يعمل كـ«سلطة نقدية استعمارية جماعية للثالوث».

3ـ البنك الدولي (World Bank) الذي لا يعدو كونه أداة للدعاية لـ«مجموعة السبع الكبار». أمّا المؤسّسات الأخرى فهي مخصّصة للإدارة السياسية (العسكرية) للنظام، وعلى رأس تلك المؤسسات حلف شمال الأطلسي (NATO) الذي نراه آخذاً بالحلول محلّ الأمم المتحدة في المهام الموكلة إليها. أما تزايد التحكّم العسكري الأميركي في العالم، وبشكل وحشي كما شاهدناه بعد 11 ايلول 2001، فهو خير معبّر عن هذه الحقيقة، بحسب أمين.

بعد هذا العرض الوجيز لآليات السيطرة الأميركية الجديدة على التخوم، والتي يقع لبنان ضمنها، هل يحتاج الأمر إلى مزيد من التساؤل عن أهداف الإدارة الأميركية من وراء دعمها لـ«قوى الاعتدال» في منطقتنا، أو لـ«قوى السيادة والحريّة والاستقلال» في كثير من مجتمعات الجنوب، ومنها لبنان، هذه القوى التي، إن صدقت نيّاتها، فإن النيّات الأميركية لم ولن تصدق أبداً، بل إن «الفيروس الأميركي» الذي أصاب المنطقة، يصيب لبنان اليوم، فهل من يداوي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى