“نهاية الأصولية ومستقبل الإسلام السياسي” لفرج العشة
الــبــشــــــــــارة الــمـــرجــــــــوّة
يجري الحديث عن نهاية الاصوليات عند التمعن في البرنامج الاصولي والكوارث التي تسبب بها عند وضعه موضع التنفيذ، وهي كوارث اصابت المجتمعات العربية والاسلامية بالتمزق واغرقتها في لجج الارهاب، ناهيك بتوسع هذا الارهاب الذي وسم به الاسلام عالميا خلال العقد الاخير من الزمن، وهي وصمة تحمل الكثير من الصحة وإن تكن تستوجب في الوقت نفسه سجالا حول الحقيقي وغير الحقيقي في الصاق تهمة الارهاب بالدين الاسلامي.
يقدم فرج العشة في كتابه “نهاية الاصولية ومستقبل الاسلام السياسي”
الصادر عن “رياض الريس للكتب والنشر” بانوراما موسعة لمفاصل الخطاب الاصولي ولمنطقه الشمولي، ويستعيد في سياق كتابه ما حصل في الجزائر من ارهاب على أيدي الجماعات الاسلامية المتطرفة من قتل وذبح للمدنيين انطلاقا من مقولة ان هذا المجتمع لا يزال يقبع في عالم الجاهلية. تتسم المقولات الفكرية لهذا الاسلام السياسي بنزعة اصطفائية ترى في دينها الحقيقة المطلقة، فيما ترى ان من لا يدين بالاسلام مصيره جهنم، ويشكل في الآن نفسه خطرا على المجتمع مما يستوجب استئصاله، أو منعه من ممارسة حقوقه السياسية والدينية في حد ادنى.
تتجلى استبدادية الاسلام السياسي في رفض الآخر وعدم الاعتراف بشرعية حقه في الممارسة السياسية حيث يتسنى لهذا الاسلام ان يسود. ويتسم بخطاب يقوم على استدعاء الماضي واعتباره المقياس الذي يجب ان يقوم عليه الحاضر فكرا وممارسة. يجري تصوير العهد النبوي وفترة الخلافة الراشدية بأنهما النموذج الذي يجب استعادته، من دون الاخذ في الاعتبار تغيرات الزمن والتطورات التاريخية والاجتماعية التي طرأت على العالم العربي والاسلامي منذ اكثر من خمسة عشر قرنا. لا تستند الاسقاطات التاريخية للزمن الماضي على وقائع تؤكد “مثالية” تلك الفترة و”ذهبيتها” كما يريد الاصوليون فرضه على الحاضر من مفاهيم. كان من الطبيعي ان تسود النزاعات القبلية والعشائرية وان تتخذ اشكالا عنفية من اجل السيطرة على الموارد والسلطة، وهي وقائع يسجلها تاريخ تلك الفترة خلافا للتاريخ الاسطوري الذي يقذفه الاصوليون في وجوهنا.
يرفض الخطاب الاصولي المفاهيم الحديثة حول الدولة ومسألة تداول السلطة وحق المجموعات في المشاركة في الحكم بصرف النظر عن دينها وجنسها، وتكريس الحقوق السياسية والانسانية في الحرية والعدالة والمساواة امام القانون، وهي مبادئ اتت بها التطورات السياسية الحديثة بعد نضال قادته شعوب متعددة وكرسته في شرعة حقوق الانسان والمواطن تحت عنوان تحقيق الديموقراطية وحق الشعوب في الوصول الى إنجازاتها. يأتي هذا الرفض تطابقا مع التمسك بأفكار الماضي ودولة الخلافة الراشدية التي كانت في نظرهم قائمة على مبدأ الشورى الذي يشكل “البديل الديموقراطي” من منتجات الحداثة والتقدم. لا تتصل الشورى بأي نظام سياسي حديث، بل على العكس لم يكن لها اي دور في ممارسة السلطة على امتداد التاريخ العربي والاسلامي حيث كانت سلطة الخليفة او الملك مطلقة بكل معنى الكلمة، ولم تقم الشورى بدور معدل لهذا القرار او ذاك، لانها في الاصل غير ملزمة ولا تقوم بسوى دور “الاستئناس” بالرأي اذا اراد الحاكم ان يعطي في الشكل لقراراته صفة “ديموقراطية”. لا يرد في الخطاب الاصولي مسألة تداول السلطة سلميا، فالقسم الاساسي من التاريخ العربي والاسلامي يبرز لنا استيلاء على السلطة بواسطة العنف، سواء اكان هذا العنف ضد الخصم السياسي ام كان ضد الاقارب الطامحين الى السلطة.
يرفض الخطاب الاصولي الفصل بين الدين والسياسة، بل يرى ان السياسة تقوم بدور حماية الدين والعمل على نشره، وان الاسلام هو دين ودولة خلافا لما يدعيه العلمانيون وفق التعبير الاصولي. من هنا يحتل شعار الدولة الدينية مكانا مركزيا في الخطاب الاصولي، ومن هنا ايضا الاصرار على ان من اهداف الاسلام السياسي استعادة دولة الخلافة التي ألغاها مصطفى كمال مطلع القرن العشرين في تركيا. ويدعم الاصوليون خطابهم حول الدولة الاسلامية بآيات من القرآن وبأحاديث نبوية. يكمن خطل الخطاب الاسلامي في هذه النقطة من كونه خطابا لا صلة له بالتاريخ الحقيقي للمجتمعات العربية والاسلامية. لم يكن الدين يوما مرشدا للسياسة وموجها لممارسة الحاكم، وباستثناء المرحلة النبوية التي كان على الرسول ان يمارس المهمتين الدينية والزمنية، وهي ممارسة في الامور الدنيوية ظلت محدودة جدا، فإن التاريخ يظهر ان الدين كان دوما في خدمة السياسة وملحقا بها حيث يوظفه السلطان لتبرير مشروعية قراراته. كما ان الفقهاء والعلماء، ما عدا قلة منهم، كانوا عاملين في خدمة هذا السلطان ومنظّرين لما عرف بـ”الآداب السلطانية” بما تتضمنه من ارشادات للمحكومين في علاقتهم مع الحاكم.
اما النقطة الاخطر في الخطاب الاصولي فتلك المتعلقة بقراءة النصوص الدينية ولا سيما منها القرآن. يصر الخطاب الاصولي على قراءة غير تاريخية للنص الديني تنطلق من اعتبار كتاب الله الموحى به الى النبي محمد كتابا وضع في “لوح محفوظ” وهو صالح لكل زمان ومكان ولجميع البشر على السواء بوصفه يحوي الحقائق الكاملة في جميع الميادين الدينية منها والدنيوية. يغيب عن الاصوليين ان القرآن يتضمن شقين في ما حواه، الاول يقوم على القيم الدينية والاخلاقية والروحية الداعية الى هداية البشر وعبادة الله، وهو أمر يمكن القول بأنه يتجاوز الزمان والمكان، فيما يحوي القرآن جملة تشريعات كان على الرسول ان يجيب على قضايا واجهته، وهي امور تتصل بالحياة الدنيوية، وترتبط بزمان نزولها ومكانه، مما يعني انها ليست متناسبة مع الزمن الراهن. المعضلة الكبرى في الاصوليين ان هذه التشريعات باتت الاساس في الدين الاسلامي فيما جرى تغييب البعد الديني والروحي لهذا الدين. وهي التشريعات نفسها التي تحوي آيات عنف تدعو الى قتل غير المسلمين، نزلت خلال الصراع على نشر الدين الاسلامي، ويرفض الاصوليون اعتبارها قد تقادمت مع الزمن، مما يجعلهم يرون في جهادهم وارهابهم تنفيذا لوصايا الله الواردة في هذه الآيات.
نعود الى السؤال عن نهاية الاصولية كما يبشرنا بها فرج العشة. من الصحيح تماما ان الخطاب الاصولي يسجل كل يوم ادلة على تهافته وتخلفه واستبداده، ويظهر استحالة ترجمته سلطة عادلة، لكن المؤسف ان جماهير هذا الخطاب لا تزال تزداد عددا وفاعلية، مما يعني ان لا علاقة بين تهافت الخطاب والانفكاك عنه. تفتح هذه النقطة على درجة تطور المجتمعات العربية والتخلف المريع الذي تقيم فيه، واستعصاء الحداثة والتحديث في الكثير من ميادينه، اضافة الى تسلط انظمة الاستبداد على شعوبه، وهي عناصر مساعدة لازدهار النزعات الاصولية وتقديم نفسها البديل من هذه الانظمة في حل مشكلات الشعوب العربية والاسلامية.
خالد غزال