صفحات سورية

بعد ستين عاماً على النكبة… لماذا تأخر العرب وتقدم الإيرانيون؟

null
دلال البزري
كم مرة تكون ذكرى نكبة فلسطين فرصة لطرح السؤال؟ غالباً هي للتفجّع والتذكير بالمجازر والقناعات والبديهيات. وللتشديد على صحة ما اعتُمد من نهج في آن. والنهج «المقاوم» آخذ هذه الايام بناصية «النصر» على اسرائيل. ذكرى هذه السنة بالتالي  تطغى عليها نغمة «زوال اسرائيل» او «اقتراب نهايتها». وذلك بأقلام عارفة ومحللة، لا فقط بالصور والمونتاج… فما بالك بالعقول الجاهزة للتصديق؟
لكن دخان التفجّع والابتهاج لا يحجب السؤال طويلا. في هكذا مناسبة بالذات: ما الذي مكّّن عصابات إرهابية صهيونية من طرد أهالي فلسطين، وان تستقر هي عليها منذ 60 عاما وحتى الآن؟ قوة فلسطين والعرب؟ طبعا لا. بل العكس: هوانهم وقلّة حيلتهم. اين كانت مكامن هذا الضعف؟ اين تقع المسؤوليات او المسؤولية عنها؟ الخاصة والعامة؟ الموضوعية والذاتية؟
ثم ننتقل الى محطة اخرى من سيرة الستين عاما هذه، لم يطرح عليها السؤال: حرب الايام الستة. حزيران (يونيو) 1967 ؛ كرهنا او احببنا، واحد وأربعون عاما من الطينة ذاتها، ماثلة امامنا ايضا. فبعد ان اعلن عبد الناصر الهزيمة، هل اعلن عن القيام بتحقيق في مجرياتها؟ اعني تحقيقا رسميا قضائيا بنتائج علنية؟ تحقيق موثّق وشرعي وقانوني حول مسؤوليات هذه الهزيمة؟ حتى الآن لا نصوص ولا افعال من هذا القبيل. الشجار حول الناصرية مستمر، والناصريون مزهوون بناصريتهم، وصوتهم مرتفع؛ من دون اسئلة من هذا النوع. فقط بعض الجهود الفردية والسِيَر الذاتية القليلة. والأقل شأناً من التأريخ.
الآن، لنتجاوز هزائم اخرى، ونأتي الى محطّتي «انتصارين» اخيرين: ايار (مايو) 2000 وانسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان. وحرب تموز (يوليو) 2006 بين «حزب الله» واسرائيل. من يدقق قليلا في هذين «الانتصارين» لا يسعه غير السؤال: هل انسحبت اسرائيل عام 2000 من لبنان فعلا تحت ضربات مقاومي «حزب الله»؟ هل كانت عمليات هذا الحزب في لبنان كافية لجعلها تنحسب لو كانت متمسكة به؟ لو كانت بنت عليه مستوطنات، مثلا؟ ألم يقل عمرو موسى يومها، وكان مجتمعا في بيروت بوزراء الخارجية العرب: «اعجب بشعب يربكه انسحاب جيش محتل عن اراضيه»؟. سكتنا عن هذا الانتصار واحببنا ان نصدق. ليكون لعذاباتنا ثمن، أو معنى. و»الحزب» قاوم وبذل ولا بد… نوع من انواع التسليم.
لكن حدث بعد ذلك  «النصر الالهي الاستراتيجي التاريخي» على اسرائيل في حرب تموز 2008. «نصر» بني على «نصر» آخر… وهنا بدأ الشك يتسرّب الى العقول. وبتنا بحاجة الى معرفة سر هذا «النصر». تحقيق رسمي علمي وموثق عن هذا «الانتصار…». من هو المسؤول عنه لنكلّل رأسه بورق الغار؟ مزيد من الغموض، ولا تحقيق في هذا «الانتصار». لا تحقيق في مسؤوليات الهزيمة ولا تحقيق في مسؤوليات الانتصار. فقط تعبئة اعلامية من اجل التصديق.
هذه عينة عن العوامل التي جعلت كل من تعاطى مع اسرائيل المقاومة او الممانعة او ما بينهما من الاعيب وبهلوانيات. كل هؤلاء افضوا في النهاية الى مشاريع استبداد. الى خلَل فادح في الدولة والقانون والمؤسسات؛ أكانت معركتهم انتهت الى «نكسة» او الى «نصر». فالقضية المقدسة غنيمة. قطار يجرّ التمكين برقاب العباد.
واليك مثل آخر: بعيد هزيمة حزيران 1967، عمل جمال عبد الناصر على صياغة اتفاقية القاهرة التي منحت الشرعية  للمنظمات الفلسطينية المسلحة للعمل والانتشار في لبنان. الاتفاقية التي فتحت الجبهة اللبنانية الاسرائيلية بعدما كانت تحكمها الهدنة. ماذا قصد عبد الناصر بذلك؟ دوام قيادته لـ»القضية»؟ حتى بعد الهزيمة التي لم يليها تحقيق؟ حتى بعد موافقته على مشروع الاميركي روجرز القاضي بانسحاب اسرائيل من الاراضي التي احتلتها اسرائيل مقابل الاعتراف بها؟ ماذا كسب من ذلك؟ خلود صورته كمقاوم ربما: ورفع صورته الى جانب «المقاومين الجدد»؟
كان العرب بعيد النكبة فقراء ضعفاء يسود بينهم الجهل والاستبداد والالتباس المفاهيمي. وبعد 60 عام على النكبة على ماذا هم عليه؟ فقر وجهل وفوضى واستبداد. ولكن ايضا: تراجع المواطنة والدولة والقانون امام الضربات المتلاحقة لإبن الملّة والجماعة الحرام/الحلال. اي الجماعات الانقسامية العابرة للاوطان. ومعها انتصارية باهرة عمادها الدين والسلاح. بل تراجع التيار الاخواني المعقول اذا ما قيس بالتيار السلفي المجنون.
غياب القانون والمحاسبة والمعايير ليس وسط الجماعات الحاكمة فحسب؛ بل وسط الجماعة المحكومة ايضاً؛ بعدما تقاربت الممارسات. ما اوصل الى الحالة الاهلية التي عرفها لبنان مؤخرا. «حرب الايام الستة» اللبنانية، من 8 الى 13 أيار 2008: بعد 60 عاما من النكبة و41 عاما من الهزيمة. ماذا يبلغ المقاومون المسلحون لاسرائيل؟ و»الاحرار» من اية محاسبة؟ يبلغون مبلغ الخلط بين انتصارهم على اسرائيل وبين انتصارهم على ابناء بلادهم من العزل. ليعودوا فيهدّدون بالمزيد. ويعِدون بعد ذلك بجني ثمار انتصارهم هذا. باستلام مقاليد الحكم.  وبخطاب المتعفّف من السلطة، المترفع عن اغراءاتها.
معنى آخر من معاني النكبة بعد 60 عاما على مرورها: كانت عصابات صهيونية، فصارت دولة اسرائيل: دولة ذات آليات وقوانين ومؤسسات رصينة تحاسب اكبر رأس في هرمها. دولة ديموقراطية، عنصرية ومحتلة. لكن في النهاية عصابات تحوّلت الى دولة.
اما نحن فكنا حينها دولا. او قل مشاريع دول نالت لتوها استقلالها. فصرنا مشاريع عصابات، حاكمة ومحكومة. والتناحر الاهلي شرط من شروط تأسيس بعضها، وشرط من شروط استمرار بعضها الآخر.
والكيانات، حتى لو كانت غاصبة، قادرة على العيش والازدهار. شرط قدرتها على محاسبة نفسها لكي تستمر في هذا الاغتصاب. تحقيق لجنة فينوغراد. كم لجنة فينوغراد تحتاج اليها المحطات التاريخية التي عبرتها الستون عاما؛ من النكبة الى «الانتصار الالهي التاريخي»؟ مروراً بالهزيمة، أو «النكسة»؟
كان هناك سؤال نعلكه بدأب عجيب في سنوات مضتْ. ثم اختفى تماما من التداول. هو السؤال النهضوي الملحاح الذي طرحه شكيب ارسلان وآخرون: «لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب؟». اطنان من الورق والحبر صُرفت،  واميال من المسافات قُطعت من اجل التمحيص في هذا السؤال. ثم فجأة لا سؤال. انسحب السؤال. ما الذي سحبه؟ الملَل منه فقط؟ ام ان سؤالا آخر باتَ اكثر إلحاحاً، قوامه: «لماذا تأخر العرب وتقدم الايرانيون؟».
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى