إعادة النظر في التعددية الثقافية
عمر كوش
يتناول هذا الكتاب موضوع التعددية الثقافية، من خلال عرض الأفكار والنظريات المتعلقة بهذا الموضوع منذ أفلاطون وأرسطو وصولاً إلى التصورات الليبرالية المعاصرة، ويبني معرفته الجديدة على أساس من نقد المعارف السابقة التي يبين قصورها ومثالبها. وينطلق بيخو باريخ من عدة مسلمات، منها أن ليس ثمة مجتمع حديث، مهما بلغت درجة تجانسه ولحمته ووحدته الوطنية، إلا ويتكون من عدة مجتمعات ثقافية محلية، والخصوصية تظهر بالتالي خصوصيات، ويفترض بعملية المواءمة بينها الانطلاق من حقيقة أن الثقافة ليست، ولا يمكن أن تكون، كلاً عضوياً متجانساً ومتسقاً، بل تعيش توترات وتجاذبات داخلية، وتعاني انقسامات متعددة المحاور، تبعاً للجنوسة والطبقة والدين وصراع الأجيال والتركيز الجغرافي والتجمع الديموغرافي والانتماء الإثني. إضافة إلى أنها مفهوم ذو امتدادات سلطوية، تفرضها وتمأسسها وتشرعنها مختلف الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن بينها الدولة، فتساعد على تكريس هيمنة إحدى الفئات الثقافية على الأخريات. وباعتبار أن المجتمعات الحديثة هي نتاج قرون طويلة من التجانس الثقافي الذي رضته الدولة القومية، اعتدنا تجاهل تلك التوترات ومساواة الوحدة بالتجانس والمساواة بالتماهي لدرجة أننا “أصبحنا نشعر بالتشتت والارتباك الأخلاقي والشعوري أمام المطالب السياسية لتنوع ثقافي عميق وجرئ لا نعرف تماماً كيفية التعامل معها”.
وتلعب العولمة الاقتصادية ونظم الإدارة الحديثة وثورة المعلومات والاتصالات، والحدود الدنيا من التجانس الأخلاقي الذي يفرضه الإجماع العالمي حول بعض مبادئ حقوق الإنسان، دوراً في جعل مشاريع الاكتفاء الثقافي الذاتي والوحدة الثقافية القومية مشاريع مستحيلة. وعليه يطرح المؤلف سؤاله المركزي حول إمكانية المواءمة بين ضرورات التنوع الثقافي والتعددية والانفتاح على الآخر الفرد، والآخر الثقافة العامة. ويكتسي هذا السؤال أهميته الخاصة في بلداننا العربية.
وبغية الإجابة عن الإشكالية المركزية يتناول المؤلف بالنقد التراث الفلسفي الغربي بشقيه الأحادي والتعددي، حيث ينتقد أحادية الفلسفة اليونانية لدى أفلاطون وأرسطو، والأحادية المسيحية لدى القديس أوغسطين وتوما الأكويني، وأحادية الليبرالية الكلاسيكية عند جون لوك وجون سيتوارت ميل؛ ثم يتعرض لأفكار فيكو ومونتيسكيو وهيردر في التعددية، حيث يستعرض تطور التقاليد الطبيعية، متقصياً صيغها الرئيسية، ومناقشاً كل واحدة على حدة. ويتناول بشيء من الإسهاب دراسة نزعاتها الأحادية التي واجهت العديد من التحديات منذ بداياتها الأولى، على يد مختلف التقاليد الفلسفية الفرعية، كالتشكيكية والنسبوية والتعددية الأخلاقية. وينتقل بعد ذلك إلى دراسة الردود الليبرالية المعاصرة على ظاهرة التنوع الثقافي، وخصوصاً عند جون رولز وجوزيف راز وويلي كيمليكا، بوصفهم أهم ليبراليي النصف الثاني من القرن العشرين.
الهدف الأبعد
ويتحدد الهدف الأبعد للكتاب في تأسيس نظرية في التنوع والتعددية تتجاوز الطرح الحادي القائل بأن الإنسان كائن طبيعي لا يتأثر جوهرياً بالاختلافات الثقافية؛ وتعارض الطرح النسبوي الذي ينفي وجود سمات كونية مشتركة بين البشر، على اعتبار أن الإنسان متشكل ثقافي بجوهره. ويخرج المؤلف عن هذه الاستقطابية الجوهرانية بنظرته “الأدنوية” التي ترى الإنسان من خلال تفاعل خلاق بين الطبيعة والثقافة بحدودهما الدنيا، فيؤسس نظريته السياسية على كل من الوحدة والاختلاف، ويضعهما في صلب مفهومي المساواة والعدالة.
ويرتكز البحث إلى حتمية إجراء حوار ثقافي وضروراته وإيجابياته، حيث يصرف الجهد الأساسي على وضع آلياته القانونية وهيكليته الدستورية وأدواته الفكرية وحدوده ومنطقه وضمانات نجاحه. لكنه المؤلف لا ينسى في سياق ترسيخ “المنظور متعدد الثقافات” رفض العودة “الأصولية” إلى الماضي، ويسخر من ادعاءات “النقاء” الثقافي، ويسفه مقولة “آلهة الجغرافيا الشريرة”. ومن نفس المنظور التعددي، ينفي وجود ثقافة عديمة القيمة كلياً، أو ثقافة كاملة مكملة تحتكر الحقيقة الإنسانية، وتختزل ثراء الوجود، وتمتلك حق فرض معاييرها وأيديولوجيتها وأجندتها السياسية على الآخرين، بما في ذلك الليبرالية الجديدة.
ويخصص المؤلف حيزاً واسعاً لدراسة الليبرالية بكافة صيغها وبكثير من التعمق والدقة، فيسهم بشكل غير مباشر في الحوار الثقافي الأهم على الساحة العالمية منذ سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الاشتراكية. إذ يمكن اعتبار حواره الثقافي المشبع بالتأثيرات التداولية التي اقترحها هابرماس وغادامر رداً متماسكاً وعملياً على طروحات هنتنغتون القائلة بحتمية صراع الحضارات، بالرغم من إقراره بنزوع الثقافات إلى التنافس والمواجهة. وبتفريقه بين الليبرالية بمعناها العام، المرادف لقيم الانفتاح والتسامح والحرية والإنسانية، والليبرالية بمعناها الضيق، المتجسد بالمجتمع الليبرالي الغربي، يؤكد على أن الليبراليين يسيئون فهم عظمة الليبرالية حين يسعون إلى تحديد آفاقها بالنسخة الغربية والإقصائية بطبعها، فيما تظهر الليبرالية الغربية بصيغتها الراهنة خليط هجين من المؤسسات والتجمعات والقناعات الليبرالية وغير الليبرالية في آن معاً.
القضايا المتجذرة
والوقع هو أن التعددية الثقافية لا تتمحور حول موضوع الاختلاف والهوية بحد ذاته، بل حول تلك القضايا المتجذرة ثقافياً والتي تشكل الثقافة حاملها وعمادها؛ على أن تفهم الثقافة بوصفها مجموعة المعتقدات والممارسات التي تتفهم من خلال فئة من الناس ذاتها، وتعي العالم المحيط بها، وتنظم على أساسها حياتها الفردية والجمعية. وعلى عكس الاختلافات الناجمة عن الخيارات الفردية، تحمل الاختلافات الثقافية قدراً من السلطة، وتتم عملية تأطيرها وهيكلتها بفعل تجسدها في نظام المعنى والأهمية المشترك والمتوارث تاريخياً في ثقافة من الثقافات. ولإبراز هذا التمييز بين نوعي الاختلافات، يتم اللجوء إلى تعبير “التنوع” للإشارة إلى الاختلافات المستمدة من بنية الثقافة، بحيث تتمحور التعددية الثقافية حول موضوع التنوع الثقافي، أو الاختلافات المتجذرة ثقافياً. وبما أن دعاة سياسات الاعتراف يتقبلون كافة أنواع الاختلافات عدا تلك المستمدة من الثقافة، والعكس بالعكس، لا يفترض بهم جميعاً التعاطف مع طروحات التعددية الثقافية، وهم ليسوا الآن ولم يكونوا تاريخياً كذلك.
وتثير المجتمعات متعددة الثقافات أسئلة أخرى حول طبيعة ودور النظرية السياسية، فكل المنظرين السياسيين في الماضي وجهوا خطابهم إلى الجنس البشري قاطبة، وادعوا شرعية ومصداقية كونية شاملة لرؤاهم وتصوراتهم حول الحياة الكريمة وحول نماذج الوحدة السياسية ونظريات الحقوق والعدالة والواجبات والمساواة وما شابه. وحالما ندرك أن الكائنات البشرية متجذرة ثقافياً، وأن الثقافات الإنسانية شديدة التباين، وأن الجمهور الذي تخاطبه هذه النظريات السياسية ليس متجانساً ثقافياً، يتضح لنا أن مثل هذا الرأي يحتاج إلى إعادة نظر شاملة في طبيعته ونوعية الدور الذي يؤديه.
من جهة أخرى، ظهرت النزعة الثقافوية أو التعددية كردة فعل على النزعة الطبيعية، واشترك في تبنيها بدرجات متفاوتة من القناعة بعض السفسطائيين، وفيكو ومونتسكيو وهيردر والرومانسيون الأمان وغيرهم. واتخذت هذه النزعة منحى معاكساً، إذ جادلت بأن البشر كائنات متعينة ثقافياً، وتختلف من ثقافة إلى أخرى ولا تشترك إلا بالحد الأدنى من الخاصيات المستمدة من أصولها النوعية التي لا تقدم استنتاجات أخلاقية وسياسية مهمة. وبالرغم من أن الثقافويين كانوا على حق في إدراك أهمية الثقاة، إلا أنهم أخطئوا فهم طبيعتها. ونظراً لأنهم تبنوا مفهوماً عضوياً للثقافة فقد تجاهلوا تنوعها الداخلي وتوترها، وفشلوا في تفسير كيفية وآليات تغييرها، وأسباب قدرة أفرادها على اتخاذ موقف نقدي منها. وقد قسم الثقافويون الجنس البشري إلى وحدات ثقافية مختلفة، ولم يستطيعوا تقديم تعليل منطقي لقدرة البشر على التواصل عبرها، أو حتى تقييم عادات وممارسات الثقافات الأخرى. وبذلك انتهى الثقافويون، بطرقهم المختلفة، إلى تطبيع الثقافة والنظر إليها على أنها إحدى حقائق الحياة الثابتة واللا تاريخية التي تحدد أفرادها لدرجة تحويلهم إلى أنواع بشرية متميزة.
[ الكتاب: إعادة النظر في التعددية الثقافية
[ تأليف: بيخو باريخ، ترجمة مجاب الإمام
[ الناشر: وزارة الثقافة، دمشق، 2008
المستقبل