مغنيات…
حازم صاغية
لخبر موسّع عن صباح، مرفق بمقابلة معها، عنونت الصحيفة قطعتَها بـ “عودة صباح الى صباها”. أما المناسبة يومذاك فكانت عملاً للمطربة اللبنانيّة سمّته صاحبته “الأسطورة 2”. والعنوان الذي اختارته صباح لا يملك الا التذكير بـ “روكي – 2″ و”العرّاب 2” إلخ. فحين يُشار علينا بأنه يتناول “العلاقة بين التكنولوجيا والسجيّة”، نجدنا أمام تشكيلة كاملة من الرموز والمعاني، والخلط والتأليف.
فصباح تعود “الى صباها” بـ”الأسطورة 2″ وبتناول “العلاقة بين التكنولوجيا والسجيّة”. وحتّى حين توضع الادّعاءات جانباً، ويقتصر الاهتمام على كون الأمر مجرّد تقليد ممسخَر، أو باروديا، بل حتّى لو لمس البعض طعم المأسويّ في رغبة الملهاة عندها، يبقى ان صباح تقطع دائماً أشواطاً بعيدة. وفي هذا المعنى لا يعرف المرء أيّهما أبعد شوطاً: الوصول الى “الشو بيزنس” والتكنولوجيا، أم العودة الى الصبا، أم ان الكلمات هذه كلّها أريد منها ان تكون مرادفات، من مواقع متباينة، لمعنى واحد؟
ولا بأس، تقريباً للصورة، بقليل من المقارنات. فالمسافة التي تفصل فيروز عن أغنياتها قصيرة في آخر المطاف. فهي حين تغنّي، مثلاً، “نحنا والقمر جيران”، يأتيك ما يذكّر بالمرأة التي جُعلت نصف قدّيسة أو نصف مريم. وحين تغنّي هي نفسها في “الوطنيّات” عن القدس والبيوت العتيقة والصلاة، أو عن حبّ لبنان والراية التي “تهلّ عَ الريح”، تحسّ ان فيروز الشخص هكذا تفكّر فعلاً، أو أن الأفكار المحافظة التي تهتدي بها لا تنأى كثيراً عن الأزجال التي تردّدها أو عن صورة المرأة المنزّهة كما تمثّلها. والأمر نفسه يسري على غزليّاتها العفيفة والكثيرة مما لا يبتعد كثيراً عن صورة فيروز السائدة، مع ان بعض أغانيها “يخفّف” الوطأة المرتبطة بشخصها… وتفضيلنا، هنا، يذهب حكماً إلى الخفّة.
قد لا يكون هذا كلّه صحيحاً، وهو أمرٌ يستدعي تحرّياً بوليسيّاً للتأكّد منه، تحرّياً ليس من الهموم المطروحة على كاتب هذه الأسطر. لكن المؤكّد أن أغاني فيروز صنعت صاحبتها بقدر ما صنعت هي أغانيها، حتّى غدت، هي وأغانيها، متوقَّعَة إلى حدّ بعيد. ففيروز لن تفاجئنا بهيئة أخرى تتعدّى الاقتصاص من مليمترين في أنفها، وأغانيها لن تجافي، إلاّ في التوزيع الموسيقيّ ربما، الأغنية الفيروزيّة. والشيء نفسه يمكن قوله في أمّ كلثوم التي يتعالى ويتنزّه نصها وأداؤها بقدر التعالي والتنزيه اللذين في صورتها. وينطبق هذا على أسمهان وليلى مراد اللتين يصعب تصوّرهما إلاّ أميرة وسيّدة، وأحياناً راقصتي فالس، في قصور مصر الملكيّة، بينما تتراءى شادية في مظهر الإبنة اللعوبة، والقريبة الى القلب.
صباح شيء آخر. فهي أقرب ما تكون الى “مهنة” الغناء، بمعنى الصلة بالمسافة بين الصورة التي يصنعها الدور، وبين حقيقة الشخص نفسه. والحال ان الحقيقة، في ما يتّصل بها، شيء يستحيل اكتشافه انطلاقاً من المهنة. فصباح الاستعراضيّة تكاد، مع حفظ الفوارق والنسب، ان تكون الرمز العربيّ الأوّل لـ “الشو”، باللباس والاضاءة والكيتش والمسرَحة في آن معاً. لكن صباح، أو أيّة فنانة غيرها، لا يسعها، بالطبع، ان تقارب أدنى حدود هذه الاستعراضيّة المتواصلة في حياتها الشخصيّة.
بيد أنّها أكثر استعداداً مما عداها، وبلا قياس، لأن تصنع حياتها في ضوء ما تتطلّبه المهنة. هكذا، مثلاً، تبالغ في الزيجات والطلاقات، كما لو أن “الصورة” هي المثال الذي يُسعى إليه في حياة تُعاش حقاً. فهي، ككثيرات وكثيرين، تدرك أن الفنّ تزييف يضيّع الطبيعة ويجهّلها. غير أنّها وحدها تستدخل هذا التزييف إلى حياتها ذاتها.
وفعلاً يستحيل ان تكون صباحُ الحقيقيّة صباحَ المهنيّة، ليس فقط لأن أحداً لا يستطيع واقعيّاً أن يتزوّج ويطلّق بهذه الكثرة، بل أيضاً لأنّ أحداً لا يستطيع، أو تستطيع، دفعة واحدة أن يكون مصريّاً كما في “الحلو ليه تقلان قوي”، وريفيّاً لبنانيّاً كما كانت في “جيب المجوز يا عبّود”، وشعبويّاً سوقيّاً كما في “ع البساطة البساطة”. وحين نتذكّر ان صباح شاركت في غناء “وطني حبيبي الوطن الأكبر”، احتفالاً بالوحدة المصريّة السوريّة في 1958، ثم نتذكّر أنّها قريبة “شحرور الوادي”، أبرز الزجّالين اللبنانيّين “الانعزاليّين”*، نتأكد من الهوّة التي ردمتها بين الصورة والواقع، مطوّعةً الثاني للأولى. ومن الأغنية الصباحيّة الواحدة، تأتينا الحسيّة الجنسانيّة متخللة في الصوت والكلام، لتفتح الباب لزجل من النوع العاميّ والمبتذل أو لـ”أوف” وهي بالغة الصفاء والتقطير، بل التعالي، تتّجه اتّجاه السهم إلى السماء. فصباح، إذاً، تندرج في الخانة التي اندرج فيها بابلو بيكاسو الذي “رسم كلّ شيء” وتقاطع مع سائر مدارس الفنّ والتشكيل، أو اندرج فيها روبيرت دي نيرو الذي مثّل كلّ الأدوار والأوجه المتفاوتة المتناقضة.
والحقّ ان أحداً لا يستطيع في آن واحد ان يكون سمجاً وقريباً الى القلب، منفّراً ومثيراً للشفقة، غبيّاً وذكيّاً، طفلاً وشيخاً، متسافلاً ومتعالياً، كما تكون. وهنا نقع على التمويه واللعب اللذين لا نلقاهما إلاّ نادراً في التجارب الفنيّة العربيّة الأخرى. وكم يبدو هذان التمويه واللعب محفورين في ذات صاحبتهما الفخورة بمهنتها، التي انبثّت في حياتها نفسها، بالقياس إلى فنّانات تحجّبن في سنيّهن الأخيرة. هؤلاء الأخيرات غنّين أو رقصن أو مثّلن، لكنهنّ لم يكنّ فنّانات. كلّ ما في أمرهن أنهنّ بَدونَ، بقياس تحجّبهنّ، كمن مارس المهنة بوصفها عبئاً، وعندما أتيحت الفرصة الأولى، عاد إلى “الرشد” و”الصواب”.
وهذا الخيار الصباحيّ هو، بالضبط، ما اختارته، بقدرات هائلةٍ، فنّانةٌ كمادونا (الأميركية)، راوحت في هامش واسع (وضيّق) بين المقدّس والمدنّس، حتى اذا ضاقت الأغنية والفيديو كليب عن مراوحتها، بحثت عن شخصيّة إيفا (إيفيتا) بيرون متنفّساً آخر لها.
وفي هذا نجدنا مع مادونا، كما مع صباح، حيال استحالة معرفة الشخص الحقيقيّ للفنّان الذي ابتلعه شخصه المهنيّ. فإذا جاز ان الفن في وجه أساسيّ منه تمويه، جاز ان التمويه طاغٍ هنا الى الحد الأقصى.
أبعد من هذا، وكما في الصناعات والمهن والحِرف والفنون جميعاً، يمكننا القول إنّنا أحببنا صباح في هذه الأغنية دون تلك، وفي هذا الدور دون ذاك، فيسود التفصيل الذي به نحكم على فنّان ما أحببنا قطعةً له دون أخرى، فلا يسود الحكم على كتلة واحدة يلتحم فيها رأينا بأعمال الفنّان كلّها، كما بشخصه. ففي النمط الأخير من الأحكام نتّجه الى ممارسة “الموقف”، لا الى ممارسة “الذوق”. وهذا فيه قدر من التوتاليتاريّة يعادل ما في الغناء الصباحيّ من ديموقراطيّة. إنّه نمط جامع وثقافيّ، تبعاً لموقفيّته بالضبط، فيما الثاني مفتّت بقدر ما أن الحياة، لا التصوّرات والأفكار، مرجعه.
لهذا يميل بوجهه شطرٌ من الثقافة الرصينة عن صباح (التي لم تغنّ الا نادراً أشعاراً بالفصحى)، ليتعلّق بحالاتٍ ثقافيّة هي امتدادٌ لشعرٍ أو إسقاطات أو رغبات.
أما صباح التي ليست “حالة” ثقافيّة، فمهنةٌ وتمويه وفنّ، يأخذها الى الطفولة والى “الشو بزنس” والى التكنولوجيا أو أيّ مكان آخر. فهي تذهب إلى الأمكنة كلّها، والمهنة التي تأخذها قد تكون متوهّمةً أخذها. وهذا، في الحالات جميعاً، ليس مهمّاً.
[ حين أقيمت الدولة الشريفيّة في دمشق وطُرحت فكرة ضمّ لبنان اليها، كانت التظاهرات المطالبة ببقاء الانتداب الفرنسيّ فيه تردّد بيتيه الزجليّين:
“عيشي بذلّي ما منحبّا/ منتظاهر ما منتخبّا/ يا منّال الإستقلال/ يا منرحل ع أوروبا”.
المستقبل