ماذا ‘يطبخون’ في ابوظبي؟
عبد الباري عطوان
ان يتداعى وزراء خارجية تسع حكومات عربية الى اجتماع مفاجئ، ومغلق، في مدينة ابوظبي بالتوازي مع اجتماع آخر لوزراء الاعلام، وفي اقل من اربع وعشرين ساعة، فإن هذا امر يثير العديد من علامات الاستفهام حول ‘الطبخة’ السياسية التي يعكف هؤلاء على إعدادها، على نار ملتهبة، وفي مثل هذا التوقيت بالذات.
الشيخ عبدالله بن زايد وزير خارجية دولة الامارات، والمتحدث الرسمي باسم المجتمعين، قال في تصريح مقتضب يلخص بعض الملامح الرئيسية لهذا الاجتماع، الذي استغرق اربع ساعات، بعيدا عن اعين الفضوليين من رجال الاعلام الموجودين في المكان ‘ان الاجتماع المذكور يعمل من اجل دعم توافق عربي من شأنه ان يوقف التدخلات غير المرحب بها، وغير البناءة، في شؤوننا من قبل اطراف غير عربية’.
من المؤكد ان الشيخ عبدالله يقصد ايران في اشارته هذه، فقد كان اختيار بلاده كمكان لعقد هذا الاجتماع محسوبا بدقة، سواء بسبب احتلال ايران لجزر اماراتية، او للدور الاماراتي المتنامي كقاعدة لاي تحرك عربي واجنبي ضد ايران في المستقبل، تماما مثلما كانت الكويت رأس حربة في تحرك مماثل ضد عراق صدام حسين، مثلما يرى البعض.
فالعدوان الاسرائيلي الوحشي الاخير على قطاع غزة، والذي ادى الى استشهاد 1350 شخصا معظمهم من الاطفال والنساء، واصابة ستة آلاف، وتشريد ستين الفا على الاقل جرى تدمير منازلهم، لم يستدع عقد اجتماع بالسرعة نفسها لوزراء الخارجية ووزراء الاعلام في الوقت نفسه، لوضع استراتيجية للتصدي له سياسيا او اعلاميا، ناهيك عن الجانب العسكري. وحتى الاجتماع الذي عقده وزراء الخارجية على استحياء شديد، عكس تواطؤا واضحا للبعض مع العدوان، واكتفى بتصدير الأزمة الى الامم المتحدة، من قبيل رفع العتب، واعطاء اسرائيل مزيدا من الوقت لتحقيق اهدافها.
وما يثير دهشتنا من هذا الاجتماع، واستغرابنا تجاه نوايا اصحابه، ان وزراء خارجية ما يسمى بدول الممانعة، مثل سورية والسودان وليبيا والجزائر وقطر، جرى استبعادهم كليا منه، ولم توجه لهم الدعوة اساسا، وما قيل ان دعوات مستقبلية ستوجه الى وزراء عرب آخرين للمشاركة فيه هو مجرد ذر للرماد في العيون فقط.
وكان لافتا ان دولا مثل سلطنة عمان والكويت ولبنان والعراق فضلت البقاء بعيدا، إما لإدراكها بخطورة نوايا المجتمعين، وريبتها تجاهها، او لأنها فضلت التريث لمعرفة النتائج وردود الفعل، او الوقوف على الحياد. مع التذكير بان سلطنة عمان على سبيل المثال، كانت الوحيدة الى جانب الصومال التي لم تقاطع مصر بعد توقيعها اتفاقات كامب ديفيد من بين العرب الآخرين.
السؤال الذي يطرح نفسه بالحاح هو عن اسباب ‘العجلة’ في عقد هذا الاجتماع الذي جاء بعد لقاء ثلاثي تم برئاسة الزعيم المصري حسني مبارك وحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس والامير سعود الفيصل وزير الخارجية ممثلا عن العاهل السعودي، خاصة ان الاخير طار بمعية نظيره المصري احمد ابو الغيط في طائرة واحدة الى ابوظبي ليبدأ التحرك الجديد ودعوة نظرائهم من وزراء خارجية دول الاعتدال للقدوم الى العاصمة الاماراتية في غضون ساعات.
لا نعتقد ان الهدف هو بحث افكار حملها المبعوث الامريكي الجديد جورج ميتشل حول الملف الفلسطيني اثناء زيارته الاخيرة للمنطقة، فالرجل كان في مهمة تقصي حقائق لبلورة سياسة ادارته الجديدة تجاه المنطقة. وربما يكون هناك امر آخر وهو عدم اهتمام الادارة الجديدة بمحور الاعتدال، وتدليلهم مثلما كانت تفعل كوندوليزا رايس، وهذا يتضح من ارسال مبعوث بدرجة سفير لهم، او ربما ادركوا ان الادارة الجديدة خيبت آمالهم من حيث رغبتها في الدخول في حوار مع ايران يمثل في حد ذاته اعترافا بدورها الاقليمي كقوة اقليمية نووية عظمى، ولهذا تداعوا لبحث الموقف، وقرع طبول الحرب مجددا، والبحث في كيفية ‘ايجاد’ حليف جديد يتصدى للقوة الايرانية المتنامية واعلان الحرب عليها، تماما مثلما فعلوا للتخلص من نظام صدام حسين العراقي.
توجد مشكلة ‘غياب قيادة’ في معسكر ‘المعتدلين’ بعد اختفاء السيدة رايس التي كانت تتحدث باسم الرئيس مباشرة، مستندة الى رؤية استراتيجية وكفاءة اكاديمية. ويفسر هذا الغياب ما يعانيه المعسكر حاليا من ارتباك واضح في توجهاته ووسائله.
فما يمكن قراءته من بين سطور تصريحات الشيخ عبدالله بن زايد، وخاصة تلك التي قال فيها ان الاجتماع ‘هو للتشاور من اجل دعم الوحدة العربية، وتنسيق المواقف بناء على النداء الذي اطلقه العاهل السعودي اثناء قمة الكويت والمتعلق بالمصالحة العربية والفلسطينية’.
ان هناك محاولة للعودة الى الحشد القومي العربي في مواجهة ما يعتقده هؤلاء بتصاعد ‘المد الفارسي’ بعد ان فشلت اطروحات التعبئة والحشد السابقة على اساس التقسيمات الطائفية بين معسكر سني في مواجهة معسكر شيعي بزعامة ايران.
فلم نسمع كلمة ‘الوحدة العربية’ هذه تتردد على لسان اي مسؤول عربي في محور الاعتدال منذ عقود، بل سمعنا تشكيكا بها كفكرة عابرة تعود الى ‘زمن الستينات’ ولم تعد صالحة لهذا الزمان، وربما لا ابالغ اذا قلت إن مسؤولا عربيا كبيرا من هذا المحور قال لي ان علاقات دول الخليج مع الهند وباكستان بل وايران نفسها اقوى وافضل واكثر فائدة من علاقتها مع دول مثل مصر وسورية والمغرب.
ثم كيف تتحقق المصالحة العربية ـ العربية في ظل غياب نصف العرب، او نظيرتها الفلسطينية في ظل دعم وزراء الخارجية التسعة للسلطة الفلسطينية ورئيسها عباس، والانحياز بالكامل الى جانب طرف في المعادلة الفلسطينية ضد آخر تصدى للعدوان الاسرائيلي واحبط اهدافه، وصمد لاكثر من ثلاثة اسابيع؟ فالمجتمعون في ابوظبي لم يقولوا كلمة خير واحدة لصالح المقاومة، ونحمد الله انهم لم يدينوها ويحملوها مسؤولية العدوان الاسرائيلي، مثلما قال الرئيس حسني مبارك، وكرر خلفه الرئيس عباس الكلام نفسه قبل يومين بعد مشاركته في لقاء القاهرة الثلاثي.
نضع ايدينا على قلوبنا مما يمكن ان تحمله الايام المقبلة من مفاجآت غير سارة، مثل تصاعد حالة الاستقطاب العربي الراهنة وتحولها الى ‘صدام المحاور’ تبدأ بحروب اعلامية نرى ارهاصاتها حاليا في حملات مكثفة ضد المقاومة من قبل الآلة الاعلامية الجبارة لمحور ‘دول الاعتدال’ صاحب الامكانات الهائلة في هذا الصدد. حيث بدأت تسميات جديدة تظهر على السطح، مثل تقسيم العرب الى معسكرين، معسكر ‘عرب فارس’ ومعسكر ‘عرب امريكا’ وكأننا نعود الى زمن الغساسنة والمناذرة قبل ظهور رسالة التوحيد، مع فارق واحد وهو استبدال بيزنطة القديمة بالغرب الحديث، وربما اسرائيل.
الشعوب العربية الاصيلة التي وقفت ضد العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، مثلما وقفت ضد الذي قبله على لبنان، وايدت المقاومة في البلدين التي تصدت له بشجاعة، لا يمكن ان تكون فارسية، لانها تستجيب لضميرها الوطني والاخلاقي، وتساند من يتصدى للمشروع الاسرائيلي بغض النظر عن طائفته وعرقه، فهي لم تؤيد السيد حسن نصر الله لانه شيعي، ولا رجب طيب اردوغان لانه سني.
من يريد ان يتصدى للمشروع الايراني عليه ان يستخدم ادواته، ويتبنى قضاياه، ويبني قوة عسكرية وسياسية واقتصادية عربية تقوم على اسس العدالة والمساواة والديمقراطية، فالوحدة العربية لا يمكن ان تقوم الا على هذه الاسس، وعلى تبني مشروع عربي نهضوي شامل، وهذا ما لا نراه حاليا للأسف الشديد.
لا يخامرنا اي شك في قدرات وزراء اعلام محور الاعتدال في الهيمنة، وتزوير الحقائق، فهؤلاء يملكون ماكينة اعلامية جبارة تستند الى امكانيات هائلة، وتحظى بدعم غربي، ولكن ليس امامنا من خيار غير السير في الدرب نفسه، درب الانحياز الى هذه الامة وعقيدتها وثوابتها الراسخة، مهما كلفنا الامر من تبعات، خاصة ان الحملات في هذا الصدد ازدادت شراسة منذ فشل العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة في كسر صمود المرابطين من اهله، وفرض الاستسلام عليهم.
القدس العربي