الدرس الايراني لعرب الهوان
عبد الباري عطوان
الكتابة عن ايران هذه الايام، حتى لو جاء ذلك بالحد الأدنى من الموضوعية، مثل السير في حقل الغام شديدة الانفجار بسبب عمليات التحريض الطائفي والعرقي التي تطفح بها صحف محور الاعتدال العربي هذه الايام، وخاصة في كل من مصر والمملكة العربية السعودية، حيث تعتمد على قواميس مليئة بكل انواع السباب والاتهامات الجاهزة، ولكن اطلاق ايران قمراً صناعياً بامكانيات ذاتية، وتطويرها صواريخ باليستية تستطيع الوصول الى اي بقعة في العالم حسب تقديرات الخبراء الروس، يستحقان وقفة جادة عاقلة لتقييم هذه التجربة، والمقارنة بينها وبين ‘انجازاتنا’ العربية، بطريقة علمية، بعيداً عن الانفعالات، والعصبيات القومية أو الطائفية.
ايران تحتفل هذه الايام بمرور ثلاثين عاماً على انطلاق ثورتها التي اطاحت بنظام الشاه، وتوّجت هذا الاحتفال بالكشف عن مدى تقدم تكنولوجيتها العسكرية، وهناك تقديرات اسرائيلية تؤكد انها ستمتلك اسلحة نووية في غضون عام، بفعل تصاعد قدراتها في تخصيب اليورانيوم شهرا بعد شهر.
ومن المفارقة ان جمهورية مصر العربية زعيمة محور الاعتدال العربي ستحتفل في الشهر المقبل (مارس) بمرور ثلاثين عاماً على توقيع معاهدة كامب ديفيد للسلام، وفك الارتباط بالكامل بقضية الصراع العربي الاسرائيلي، من أجل التركيز على كيفية بناء الاقتصاد المصري، وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، والنهوض بالخدمات الاساسية من صحة وتعليم ومواصلات وغيرها.
الحكومة المصرية لم تخض اي حرب طوال تلك الفترة، على عكس ايران التي خاضت حربا ضد العراق استمرت ثماني سنوات متواصلة، ومع ذلك يمكن ان نرى الفوارق الشاسعة بين البلدين في مختلف المجالات، حيث تتجه ايران الى السماء تغزو الفضاء، بينما تتجه الحكومة المصرية الى الارض للبحث عن انفاق رفح، ومن خلال استيراد تكنولوجيا التهريب الامريكية اللازمة في هذا الصدد.
هذه التجربة الايرانية الناجحة اعتمدت على ركنين اساسيين، الاول هو التعليم، والثاني الديمقراطية، ويمكن اضافة ركن ثالث وهو نجاح النظام الايراني في استقطاب أعداد كبيرة من العقول الايرانية العاملة في الخارج، وتوفير كل فرص الابداع أمامها لتوظيف خبراتها في تطوير قدرات بلادها العلمية والعسكرية.
المحاور العربية، المعتدلة منها أو الممانعة، أو حتى المترددة بين الإثنتين، فشلت في جميع هذه المجالات، واتفقت فيما بينها على أمر واحد، وهو كيفية تطفيش الخبرات العربية، أي أنها أصبحت دولا ‘طاردة’ للعلماء والمبدعين إلى الدول الغربية. فجميع الخبرات العربية التي فازت بجوائز ابداعية مثل نوبل، فازت بها لانها موجودة في الغرب، والاستثناء الوحيد كان الأديب نجيب محفوظ، ولن نفاجأ في المستقبل القريب، اذا ما شاهدنا أدباء أو شعراء عربا يعيشون في المهجر يكتبون بلغات أجنبية، قد كسروا هذه القاعدة، وفازوا بجوائز تقديرية عالية المستوى.
وزراء خارجية دول محور الاعتدال العربي اجتمعوا في مدينة ابوظبي قبل ثلاثة أيام لمواجهة أطراف خارجية تتدخل في الشأن الداخلي العربي، والمقصود بذلك ايران وليست اسرائيل وأمريكا اللتين توجد لهما قوات وأساطيل وقواعد، لان تدخلهما ‘أمر حميد’ لا خطر منه على السيادة الوطنية العربية.
هؤلاء الوزراء لم يقولوا لنا كيف سيواجهون ايران، هل بالغتر المصنوعة في بريطانيا، أم فوانيس رمضان المصنّعة في الصين، أم بالأراجيل (الشيشة) المصنوعة في اليابان؟ أم بجيش الخدم من الهند والفلبين وسيرلانكا؟
من المؤسف انهم لم يكشفوا لنا عن مخططاتهم في هذا الصدد، لعلهم وضعوا خططاً سرية محكمة، قد نتعرف على تفاصيلها في الوقت المناسب، أي عندما تقترب مرحلة المواجهة، وتصطدم الجيوش في ساحات الوغى، ولكن ربما عقد اجتماع لوزراء اعلام الدول نفسها بالتوازي مع اجتماع وزراء الخارجية، وفي المكان نفسه، ربما يعطينا بعض المؤشرات في هذا الصدد، أي استخدام أحدث أسلحة ‘الردح’ العربي المتطورة في هذه المهمة القومية السامية.
علينا أن نعترف بأننا أمة فاشلة عاجزة جفت فيها كل وسائط الابداع، بسبب أنظمة دكتاتورية غير منتخبة، ركزت طوال العقود الخمسة الماضية على ‘تجهيل’ المواطنين والجيوش، وقتل عروق الكرامة الوطنية والقومية في الاجيال السابقة والحالية، بحيث وصلنا الى حال القحط التي نعيش في ظلها.
جامعاتنا في معظمها تحولت الى مدارس لمحو الامية، تخرج جيوشا من الجهلة، ومستشفياتنا اصبحت حقول تجارب، ومشارح للموتى، حيث تغيب المراقبة والاهتمام، ناهيك عن المحاسبة رغم ان افضل اطباء واساتذة الجامعات في اوروبا وامريكا وكندا هم من العرب.
من يريد ان يتصدى للنفوذ الايراني عليه اولا ان يتخلى عن تبعيته الحالية لأمريكا، والمقبلة لاسرائيل، وان يعتمد على نفسه من خلال وضع استراتيجية نهضوية في مختلف المجالات، والاعتراف بأن الدكتاتورية ومصادرة الحريات، وغياب الشفافية والقضاء المستقل، وقيام دولة المؤسسات هي السبب الاساسي في وصولنا الى هذا الانحدار المزري في مختلف المجالات، بحيث اصبحنا اضحوكة الامم.
نحن كعرب بتنا اليوم الاكثر تخلفا واحتقارا من بين معظم الشعوب الاسلامية الاخرى دون جدال، فها هي تركيا تتحول الى دولة ديمقراطية عظمى ينتفض رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان في وجه امريكا واسرائيل متماهيا مع مشاعر شعبه، ومرتكزا الى قاعدة ديمقراطية راسخة. وها هو احمدي نجاد يتحدى الصهيونية وامريكا، ويطلق الصواريخ والاقمار الصناعية، ويبيع نفطه باليورو، ويجاهر بدعمه للمقاومة، ويجد الادارات الامريكية ترتعد امامه خوفا ورعبا.
نشعر بالهوان امام هذا الوضع المزري الذي نعيشه حاليا، ويزداد هواننا عندما نرى معظم الدول العربية لا تجرؤ على التلفظ بكلمة دعم المقاومة التي صمدت واعادت لها، وللشعوب العربية ما افتقدته من كرامة مهدورة.
من يريد ان يتصدى للنفوذ الايراني، ويضع حدا لتدخلات طهران في الشأن العربي الداخلي، عليه ان يتعلم من مدرستها الوطنية، ومؤسساتها الديمقراطية الحاكمة (رغم بعض التحفظات)، ومراكز ابحاثها العلمية المتطورة، ودعمها للمقاومة، بشقيها اللبناني والفلسطيني، وهذا ما لا نراه حاليا، بل نرى إصرارا على الانخراط في مدارس الاستسلام والخنوع والتخلف للأسف الشديد.
القدس العربي