المحور السوري-الإيراني: صراخ في الشوارع وهمسات في المخادع
عبد الرزاق عيد
لقد بدأت هذه المعادلة، معادلة الصراخ في الشوارع والهمسات في المخادع منذ الصفقة التعويضية عن خسران الجولان بمنح لبنان لمؤسس هذه الفلسفة (الممانعة: وفق الدلالة القرآنية القائلة “يتمنعن وهن الراغبات”)، حافظ الأسد من قبل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية غبّ معاهدة كامب ديفيد التي أعطت مصر سيناء بسبب ما يمثله ميزان القوى المصري: بشريا وعسكريا وسياسيا، إذ كان لا بد من إخراجها نهائيا من التركة الناصرية المنحازة عربيا للمحورالسوفييتي، ومن إخراج مصر نهائيا من جبهة الصراع مع إسرائيل، في حين أن ميزان القوى الأسدي لم يتح له ما أتيح لمصر، بعد أن عرفت إسرائيل جيدا كيف تم التلاعب في معطيات ميزان القوى المصري: من ميزان وطني في الخمسينات إلى ميزان سياسي حزبي في بداية الستينات، ومن ثم إلى ميزان مذهبي فئوي طائفي بدءا من منتصف الستينات عبر تطييف الجيش، ومن ثم ترسيخه الفئوي نهائيا في السبعينات وحتى اليوم، مما لا يسمح لحافظ الأسد أن يطالب بالجولان مقابل انسحابه من جبهة المواجهة مع إسرائيل، فأعطي الأسد الأب لبنان كجائزة ترضية مقابل إنهاء المقاومة الفلسطينية واللبنانية الوطنية والعلمانية لصالح ميليشيات فئوية غير وطنية، وعدم وطنيتها تتأتى من أسباب عقائدية تعطي الأولوية: لـ (الملة على حساب الأمة) من خلال التماهي بينهما بحكم عدم إيمانها بمفهوم وطنية لبنان واستقلاليته، ليحل محله رابطة الملة الشيعية التي تجد هويتها في طائفيتها المتماهية مع (الأمة الإيرانية وليس العربية)، ولم تكن روابطها مع سورية إلا وفق المعايير المللية للعائلة الأسدية بعد أن وهبها الخميني شرف الانضمام إلى الملة الشيعية.
هكذا سينتقل مركز الثقل في المواجهة العربية مع إسرائيل من القاهرة إلى دمشق بعد كامب ديفيد، وذلك بعد أن استنفذ الأسد أغراضه (التصحيحية المكيافيلية)، من خلال حرب تشرين التي لم تكن بالنسبة له سوى استجابة لنصيحة مكيافيلي للحاكم بأن يخوض حربا ما (دعائية) ضد عدوه التقليديي ليكسب (زعامة كاريزمية)، ولعله من الممكن القول أن تاريخ سوريا منذ اربعين سنة هو تاريخ صناعة هذه الكاريزما الآكلة لكل الميراث الديموقرطي في سوريا والفاضحة في درجة فسادها واستئثارها بالسلطة والثروة والمستحيلة على زعيم فئوي يستند في وعيه وممارسته إلى قاعدة طائفية في صناعة سلطته وقوته، في أن يكون زعيما قوميا عربيا يرث كارزمية جمال عبد الناصر الصانع المأساوي لكذبة نسبة 99 في مصر والعالم العربي، حيث هذا هو المنجز القومي العربي الوحيد الذي خلفه عبد الناصر وتمسك به الخلف بالنواجذ، وهو الإرث الذي شكل عقدة زعماء المدرسة السياسية القومية البوليسية من المعجبين بنموذج مدرسته حيث ستتحول نسبة 99 من كذبة تراجيدية كان لها أثرها على مستقبل الحرية والديموقراطية في العالم العربي، إذ تحولت الكذبة التراجيدية إلى واقع ملهاوي ميلودرامي تافه يؤسس لثقافة (الصراخ في العلن والهمس المضاد في الخفاء) .
لقد استلهم النموذج الناصري في استبداديته عبر التخلي عن مضمونه الوطني التحرري، لكي تتأس عبر المدرسة الأسدية مدرسة الصراخ ضد الإمبريالية في الشارع وعقد الصفقات معها في المخادع، أي ثقافة التمنع (الحريمي) من جهة، وثقافة الفحولة الذكورية الجهورية الصوت في التعامل (السادي-القوام) على المرأة أمام الملأ وسفح الكرامة والتذلل الشهواني( المازوشي) في المضاجع من جهة أخرى، هذه القاعدة التحتية (اللاشعورية) لمركب الثنائية (السادو- مازوخية) للمنظومة الثقافية التقليدية ما قبل الحداثية، ربما تشكل عمق الباطن الثقافي لهذا التناقض الفاضح بين المعلن والمضمر في النموذج السوري (الأسدي) الذي استفاد من موروثه الثقافي الديني الميثولوجي ليجعل من ذلك منظمة ممارسة نضالية يشترك معه فيها كل الإشتقاقات الصادرة عن النموذج الصراخي الكربلائي الذي نشهده في صيغة مواجهة مع المشروع الغربي في جنوب لبنان، لكنه يأخذ صيغة مهامسة في العراق إذ ولي الفقيه الأيراني ينتج عنه وكيلان :صارخ في الشوارع في حنوب لبنان، وهامس في المخادع في نجف العراق ، حيث قم تدير الحركة بين الشوارع والمخادع تواصلا ومواصلة للأجتهاد الأسدي الذي أنتج هذه المعادلة في التناقض الذي يعاش كواقع شديد التناغم والانسجام في العقل الذي ينتج الخطاب الفكري العربي(الأحباري) نسبة إلى كعب الأحبار اليهودي بوصفه ممثل المؤامرة المؤبدة على العرب المسلمين منذ إيقاظه للفتنة الكبرى وصلا إلى أحفاده في اسرائيل اليوم، (الأحباري) والإسلامي الشيعي والسني المتشيع (حماسيا)، مما نشاهده في معاركنا التي تصرخ دائما بالانتصار: من انتصارات 5حزيران 1967 القائمة على عجز اسرائيل عن إسقاط الأنظمة التقدمية العربية (الناصرية والبعثية)، مرورا بالانتصارات الإلهية لحزب الله الذي توج انتصاراته في احتلال بيروت، وصولا إلى انتصارات غزة التي لم تسقط السلطة الإسلامية لحماس، وعززت الانتصارات السورية في مواجهة المجتمع الدولي والعربي الذي يلاحق عصابة حكامها على جرائمها (الوطنية والثورية) في لبنان للقضاء على الرأسمالية والرجعية الحريرية والإقطاعية الكتائبية والعمالة الاسرائيلية من قبل جريدة النهار واليسار الذي يشكك بثورية آل أسد ويؤكد عصبويتهم المافيوية الدموية كأمثال سمير قصير الطامح إلى استقلال لبنان عبر ديموقراطية سوريا وجورج حاوي الذي عايشهم طويلا وكشف فئويتهم وعصبويتهم وذئبيتهم .
المهم هو انتصار السلطة والايديولوجيا، وانتصارها يكمن بعدم إسقاطها، وهكذا فنحن نراكم الانتصارات منذ الهزيمة الاستثنائية في تاريخ البشرية (هزيمة حزيران 67) حيث احتلال أراضي ثلاثة دول عربية وتهديد عواصمهم لولا مشكلة اسرائيل الديموغرافية في عدم قدرتها البشرية على الانتشار على مساحات واسعة، وربما تفوقنا في قنبلتنا “المنوية” التكاثرية في مواجهة القنبلة “النووية” الاسرائيلية هي التي حالت حتى الآن دون تحقيق “هزيمة” إسرائيل الكبرى في تحقيق شعارها من الفرات إلى النيل، بل الطريف في هذا الأمر ما عبر عنه حينها الوفد الإسرائيلي في مفاوضات السلام مع الوفد السوري في قولهم، إن المفاوض السوري يحاورنا على أساس أننا نحن المهزومون في حزيران 1967 ، تلك هي اللقيا الفلسفية (الأسدية) التي أستند إليها نظام الأسد الأب في بناء نظام الخطاب المقاوم والممانع: ليس المهم الهزيمة على الأرض بل المهم أن تبقى منتصرا في قوة الخطاب، إما أن تقبل اسرائيل بذلك أو فلتبق في الجولان إلى الأبد… ما دام أن نظامه مكفول البقاء إلى الأبد وما دام حصل على تعويض الجولان في لبنان… هذا الخطاب القائم على الصراخ بالانتصار لتغطية الهمس بالهزيمة ، تم تعميمه قوميا على كل جبهات القتال القومي
الذي سكت حاليا لصالح الجهاد الإسلامي على أن يكون نظام الخطاب الأسدي هو الفاصل، وهو الذي سيقود سياسيا نتائج الانتصارات، وهذا ما يفسر لنا خروج الأسد الصغير الابن دائما بعد وقف الدمار الإسرائيلي لإعلان الانتصار على أنقاض جثامين الشهداء اللبنانيين أوالفلسطينيين (أنبل بني البشر) على حد التعبير اللوذعي للأسد الأب– وذلك على طريقة الأب ذاته بتوصية مفاوضيه بالحوار مع إسرائيل من موقع المنتصرين- ثم المطالبة بالثمن السياسي كما ختم انتصارات حزب الله باحتلال بيروت وكما يختم اليوم انتصارات حماس ربما بإسقاط النظام المصري أو السعودي ..وما على أمة العرب إلا أن ترفع رأسها شامخا –كما كان يدعوها أحمد سعيد في زمن الانتصارات الحزيرانية- بفضل انتصارات آل الأسد القومية سابقا والفارسية لاحقا ..إنها انتصارات مغطاة بخبرات وانجازات: عروبية أسدية التي لا يهتز لها رمش إذ ترمح الطائرات الإسرائيلية فوق عروشها وغرف نومها– وانتصارات إسلامية “ملتية ولايتية” بجهد وفضل آل البيت التي اعترف نبيها الخميني بأن صدام حسين المنقرض ذاته قد جرعه سم وقف الحرب بلا أي انتصار إلهي كما راح التلاميذ المقلدون يبتدعون أمجادا ميتافيزيقية اليوم… بينما هم تحت وابل الصراخ اللغوي احتجاجا في الشوارع على وابل رصاص اسرائيل المتدحرج، كانوا يمارسون الهمس الخجول في المخادع عبر الرسائل الملغزة لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية حول الملف النووي الإيراني في الأمم المتحدة والملف الدموي السوري في المحكمة الدولية…!
على ضوء هذا المطمح الأسدي الأكبر من قدرة وممكنات سوريا كبلد لأن تحل محل مصر، والأكبر من الأسد من أن يحل محل عبد الناصر، وعلى ضوء الطموحات غير المحدودة لشخصية عسكرية ريفية أقلوية محدودة الخبرات الفكرية والسياسية بالمقارنة مع رفاقه الكبار في حزب البعث الذين لم يتفوق عليهم جميعا إلا بقلة النبل (سجنهم جميعا حتى الموت)، والخبث الغريزي في علاقاته الغامضة المبكرة في (مخدعيتها) مع الغرب (حديث الجميع عن غيابه الغامض ثلاثة شهور في بريطانيا )، والباطنية الشديدة إذ كان يعيد بناء الجيش-لا وفق الحاجات الوطنية للبلد- بل وفق حاجاته الشخصانية العائلية والطائفية للهيمنة والاستيلاء على السلطة، بعد أن استخدم الضباط الأكثر بلاهة من أبناء المدن (أمين الحافظ)، لتنظيف الجيش من كل خبراته المدينية والأكاديمية العريقة، على اعتبار أن المدينة معادل للبورجوازية وفق الأدلوجة الشعبوية الفلاحية ومن ثم (الأقلوية)، حيث سيمر زمن على سوريا –وربما حتى اليوم – تظل فيها هذه الأدلوجة سائدة تحت تغطية نظرية (يساروية) تلفيقية ساذجة قادت الكثيرين منا- ذات يوم- ليراهن على افتراضية (علمانية )حافظ الأسد ضد بعثيي المدن الذين كنا نصفهم بالرجعيين والتقليديين الذين كانوا يقطعون الاجتماعات الحزبية من أجل أداء صلاة العشاء كما كان يروي لنا البعثيون الأسديون لإقناعنا- نحن اليساريون- بتقدميتهم ورجعية البعثيين الدمشقيين أو الحلبيين أو كل بعثيي أبناء المدن…الخ
وقد كنا ننظر بعين الرضا لتقريب الأسد لأنصاره من آل عشيرته واعتماده أبناء طائفته لظننا أن أبناء الأقليات هم الأكثر انحيازا للعلمانية واليسارية الجذرية بسبب النظرية الصوتية عن (الصراخ الشوارعي) بالتقدمية، لكن العصبوية الطائفية الفظة – مما كان سيظهر- على مستوى الاستيلاء على كل عناصر القوة للدولة: ليس العسكرية والأمنية فحسب بل والسياسية والاقتصادية ليصل الأمر إلى الثقافة والفن…
ولا نعلم حتى الآن النتائج النهائية للحركة التصحيحية (الجمالية) الموازية لحركتها السياسية المعول عليها بتخليص سوريا من فناني المدن (البورجوازية ) وفنها الرجعي من أمثال: مدرسة صباح فخري وقدوده الحلبية… وذلك عبر تتويج تقدمية (علي الديك)، رمزا لفن الثورة الأسدية، وذلك بعد سيادة تلك الفلسفة الثورية (الطائفية) التي تنظر لكل مظهر من مظاهر المدنية والتحضر والرقة والتهذيب الاجتماعي على أنه (برجزة ورجعية وتخنث)، وفق الاستخدامات الأقلوية (العسكرية والمخابراتية) للشعارات (الثورية) لحزب البعث، وبما يتناسب مع ثقافة (الرجولة والمرجلة ) للجيش العقائدي، الذي يراهن على تنمية ثقافة العنف الجسدية وليس ثقافة الحرب الحديثة، حيث أول ما يتعلمه المتدرب في خدمة العلم أن يصرخ بوحشية مرغوبة ومشتهاة وفق تقاليد الثقافة الفلاحية مرددا أمام آمره ومدربيه بصوت جماعي مع كل أفراد دورته بأنه “وحش”، ردا على اختبار قدراته الجسدية والعضلية، استنادا إلى المصفوفة الثقافية (الأسدية) التي عممت نمط التفكير السياسي والثقافي والعسكري (البلطجي)، بعد أن فبرك له الإعلام عشرات الصفات (الذكورية الأبوية البطركية) بابتذال شعبوي رث، وفي صياغات إنشائية تتناسب مع الثقافة المدرسية لجيله، جيل المرحلة الكولونيالية الذي كان بسبب تهديد الهوية الثقافية القومية يعمد لوضع سياسة للتعليم والعلم يختصر مضمونه في حفظ الشعر والتباري بالإعراب والنحو ومن ثم الانتشاء بالعبارات الوصفية بذات البلاغة الجاهزة المستندة إلى التشابيه والاستعارات والتصريعات البيانية والبديعية المكررة والمعاني المجترة وفق أناقة لغوية مزركشة وفارغة وعديمة اللون والطعم والدلالة، حيث ستتحول إلى مقولات من أمثال: الشهداء خير من في الدنيا وأنبل بني البشر… وفق قاعدة (الصراخ الوحشي) الذي يتكشف في أزمنة الحرب عن فسولة ورخاوة عندما تبرهن له إسرائيل أن زمن حرب المبارزة الجسدية قد ولى منذ زمن بعيد، وأن الحرب الحديثة تتطلب العقل الحديث واليد الحديثة الماهرة المثقفة والخبيرة وليس اليد المتوحشة، حيث الوحشية الجسدية لا تتكشف في المآل عن نتائج ومردودية فعالة إلا في الحروب الأهلية، أي القدرة على إبادة الأهل في سوريا واغتصابهم في حماة، أو سحق الأشقاء في تل الزعتر أوطرابلس… وهو ما كان يثبته الجيش الأسدي ومخابراته في شوارع سوريا جبروتا وغطرسة ووحشية لا تقارن في درجة كراهيتها لمجتمعها التي كانت تثبت دائما وكأنها قوة استيطانية غريبة عن نسيجه… لاسيما في شدة الوحشية المرعبة التي مارسها الزبانية في السجون والمعتقلات من إبادة وذبح أبناء المعتقلين أمام آبائهم مما نقله أدب السجن السوري وحكايات المسجونين …والحديث عن العلاقة الاستيطانية مع المجتمع ليس هجاء سياسيا للعصابة الحاكمة، بل هو ممارسة سياسية لأجهزة النظام الوزارية والحكومية إذ تلجأ دائما للمقارنة بين أفعالها نحو شعبها وأفعال إسرائيل نحو الشعب الفلسطيني… كل ذلك يتم تحت فلسفة الصراخ في الشوارع للهيمنة على الشوارع واستخدامها في خدمة الهمس في المخادع وربما المضاجع… وسنواصل البحث عن السر… والله أعلم !
كاتب سوري
الحوار المتمدن