في العلاقة بين “الجمهورية” وولاية الفقيه
فاخر السلطان
ما إن سقط نظام شاه إيران عام 1979 بعد ثورة شعبية عارمة، حتى فرضت مؤسسة رجال الدين رغباتها على توجهات الثورة بحيث تحول التمرد الشعبي إلى حركة ذات هدف محدد هو استبدال الملك بولي الفقيه أو الشاه بمرشد الثورة، وأدى ذلك إلى أن يذهب محمد رضا بهلوي ويأتي آية الله روح الله الخميني الذي كان مرتبطا بالسماء بينما كان الشاه مرتبطا بالأرض.
يقول ويلفريد بوختا في كتابه “من يحكم إيران” (الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية عام 2003) ” لقد قام أتباع الخميني بتطبيق نظرية ولاية الفقيه، وأنشئت هذه الولاية إعمالا للمادة 107 من الدستور باعتبارها مبدأ من مباديء الدولة لاينفصل عن شخص الخميني. وهكذا أنشأ أتباع الخميني مؤسسة تتجاوز سلطاتها بكثير تلك التي كانت ممنوحة للشاه بموجب دستور عام 1906. إذ تؤسس المادة 110 من دستور عام 1979 على نحو راسخ صلاحيات الولي الفقيه وحقوقه” وتقول المادة الخامسة من الدستور الإيراني بأنه “في زمن غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه (آخر أئمة الشيعة) تعتبر ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الولي الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر والشجاع القادر على الإدارة والتدبير ممن أقرت له أكثر الأمة وقبلته قائدا لها”. ويقول الخميني حول وصاية الفقهاء على السلطة “إن دستورية الحكومة الاسلامية لا تعني أن صلاحية القوانين ونفاذها مشروطان بمصادقة الغالبية عليها بل تعني أن الحكام أنفسهم خاضعون لمجموعة من الشروط والمعايير التي جاءت في الكتاب والسنة في مسألة الحكم، وبما أن الفقهاء يدّعون إنهم وحدهم الذين يمتلكون شروط معرفة ما جاء في الكتاب والسنة وتفسيره فإنه ليس من المقبول أن تخضع مراكزهم وأدوارهم للإنتخاب والتصويت من قبل الناس أو العامة الذين يجهلون المعايير الشرعية التي يجب أن يتم التصويت وفقا لها”. ويقول نائب مرشد الثورة السابق حسين علي منتظري (الذي يعيش في عزلة في الوقت الراهن) في أحد اجتماعات مجلس الخبراء في الأشهر الاولى بعد انتصار الثورة معلقا على حدود سلطة ووظائف ولي الفقيه، إن سلطة الولي هي “بلا حدود، نظرا لأنها سلطة إلهية حيث يقوم ولي الفقيه بتنفيذها خلال غيبة ولي العصر (الإمام المهدي)”.
منتظري هذا تغيرت وجهة نظره بشأن ولاية الفقيه قبل سنوات عدة، لذلك مورست ضده الكثير من الضغوط من قبل المحافظين والمتشددين وتم عزله والتضييق عليه. وقد قال في هذا الشأن بأن “الدستور الإيراني ليس قرآنا منزلا من الله لا يمكن تعديله”، مؤكدا أن الأمور اليوم تغيرت كثيرا ولذلك “نحتاج الى إعادة النظر في كل شيء في إيران”.
بعد أن كان يلقي دروسا عن “ولاية الفقيه” على طلبة لم يكونوا فقهاء مجتهدين، وجُمعت كل الدروس في أربعة مجلدات ضخمة تحت عنوان “الحكومة الاسلامية”، عاد منتظري بعد عزله ليروج لنظرية جديدة هي نظرية “الولاية المشرفة” التي لا تتدخل في تفاصيل الحكم ولا تعتبر ملزمة. وهو يقول في هذا الصدد “لا يمكن أن نعيش اليوم بأفكار الأمس، ولاشك أن توجهات الثورة الاسلامية حاليا ينبغي أن تختلف عن توجهاتها في المرحلة السابقة”.
يعارض منتظري في نظريتة الجديدة أن يكون ولي الفقيه فوق القانون، كما يعارض تدخل الولي في جميع المسائل والقضايا من دون أي مساءلة أو حساب، ويؤكد بأن ذلك “يعتبر في عرف الشرع والعالم هو الإستبداد بعينه، وأن الإصرار على ذلك سيؤدي إلى أن تزول أرضية إشراف الفقيه على كيفية إدارة الدولة”.
في نهايات الحرب العراقية الإيرانية كان منتظري قد عارض الكثير من ممارسات السلطة الدينية في داخل إيران، الأمر الذي أدى إلى بروز خلاف بينه وبين مرشد الثورة. يقول بوختا بأنه كان مفترضا أن يكون منتظري خليفة الخميني، غير أن منتظري انتقد بعض الممارسات الحكومية واعتبرها عارا على الثورة، ومنها عمليات الإعدام الجماعية التي شملت ما لا يقل عن 3000 سجين سياسي والتي نفذت بتأييد من الخميني في خريف 1988 بعيد وقف إطلاق النار مع العراق، لإفراغ السجون من النشطاء السياسيين المناهضين للثورة، وقد أثار استنكار منتظري الشديد لعمليات الإعدام هذه غضب الخميني، وكان أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت المرشد الأعلى إلى إرغام منتظري على الاستقالة في مارس 1989. وقد تلت ذلك أزمة خلافة، إذ تنص المادة 109 من دستور 1979 على ضرورة أن يكون الولي الفقيه مرجع تقليد قادرا على الإفتاء، وباستبعاد منتظري لم يكن هناك خلفاء مناسبون بين صفوف علماء الدين المسيّسين. ولذلك أمر الخميني بإلغاء هذه المادة بصورة قانونية.
أكبر غانجي، المعارض والسجين السياسي الذي غادر إيران ليعيش في الولايات المتحدة، ينتقد رؤى الخميني في الولاية ويعتقد بأنها تختلف عن رؤاه قبل انتصار الثورة، كما يؤكد بأن هناك علاقة محكمة بين مفهوم “الجمهورية” والإعلان العالمي لحقوق الانسان. يقول غانجي بأن الخميني وأثناء إقامته في باريس كان يدعو إلى حكومة جمهورية واقعية مستندة إلى حقوق الإنسان، غير أن حكومة أخرى ظهرت بعد ذلك وهي حكومة ولاية الفقيه التي أعلن عنها بعد مضي ثمانية أشهر من انتصار الثورة.
ويؤكد غانجي بأن نظرية ولاية الفقيه والحكومة القائمة على الولاية التي تستند إلى حاكمية الفقهاء، هي حكومة غير متوافقة مع الحكومة “الجمهورية”. ذلك هو ينتقد بشدة من يزعم بأن الخميني كان يساند الحرية والديموقراطية والجمهورية. وبخصوص نظام الجمهورية الإسلامية يقول غانجي بأن السلطة في هذا النظام متمركزة بيد الفقيه، واذا لم يرد الفقيه تغيير هذا النظام فإنه من المستحيل تغيير دستوره وايجاد نظام “جمهوري” متسق المعايير. لذلك يؤكد غانجي على أن إمكانية اصلاح النظام في إيران في ظل وجود ولاية الفقيه “غير ممكنة”.
ينقسم أنصار ولاية الفقيه في إيران إلى قسمين: الأول يدعو إلى ما يسمى بالديموقراطية الدينية، والثاني يرفض أي إشارة للديموقراطية في نظام الحكم حيث يربط الولاية بالحاكمية المطلقة المنطلقة من الشارع المقدس والتي لا يمكن ممارسة أي رقابة شعبية عليها.
ويؤكد غانجي في هذا الإطار أن دستور الجمهورية الإسلامية في إيران ليس وحده الذي يتعارض مع الديموقراطية، بل إن الإسلام كدين لا يستطيع أيضا التعايش معها. ويقول بأن نظام الجمهورية الإسلامية غير قابل للإصلاح، ويقترح إجراء استفتاء شعبي ليمكن عن طريقه تغيير النظام إلى جمهورية واقعية – وحسب رأيه – متسقة المعايير. ويعتقد بأن هناك معايير لوصف أي حكومة بأنها “جمهورية”، منها أنها لابد أن تكون محايدة من الناحية الإيديولوجية، وأن يتمايز الدين فيها عن الدولة، وأن لا ترجّح دينا على دين آخر في المجتمع. لذلك يؤكد بأن مفهوم حاكمية الشعب الدينية أو الديموقراطية الدينية هو مفهوم متناقض أو “باردوكسيكال”.
كما يشير إلى أن الديموقراطية قائمة على مفهوم المساواة، في حين أن الدستور الايراني الحالي يطرح اللامساواة في مواقع عديدة، من جملة ذلك اللامساواة بين الرجل والمرأة. ويقول بأن اللامساواة تلك مذكورة في الدين الإسلامي أيضا، ويدلل على ذلك بالعديد من الآيات القرآنية. كما يؤكد بأن جهود بعض المفكرين الإسلاميين الهادفة إلى استخراج مفاهيم مثل الديموقراطية والتعددية والمجتمع المدني وحقوق الانسان من الدين الإسلامي هي “جهود عديمة الفائدة”.
ويقول غانجي بكل صراحة بأنه لا يمكن الجمع بين الإسلام والديموقراطية. ففي نظره أن إحدى خواص الديموقراطية هي حق انتخاب وتغيير الدين، في حين إنه من يغيّر دينه في الإسلام سيتعرض لعقوبة القتل.