الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّورية

إيران من مرحلة تصدير الثورة إلى مرحلة “تصدير السلطة”

جهاد الزين
هناك تعابير في الثقافة السياسية تصمد طويلاً بل تترسخ في ذاكرة قارئها اقوى من الايديولوجيات والتبدلات في قوة (او ضعف) تأثيرها على مدى حياة انسان واحد. تعابير اعلى من الايديولوجيات – اذا كان لي ان اكرر – حتى لو كانت صادرة عن “ايديولوجي” كبير جداً، بل “صانع ايديولوجي” كبير جدا ككارل ماركس.
هذا التعبير المؤلف من اربع كلمات كتبه كارل ماركس، اجدني استعيده في مجال التعليق على مرور ثلاثين عاماً على نجاح الثورة الدينية في ايران:
“التاريخ لا يتقدم الا من ناحيته الخطأ”.
كيف لثورة انتجت سلطة ذات جذر شعبي – شعبوي، من نوع واطار لا سابق لهما هي “سلطة رجال الدين” تستمر في ادارة صاخبة داخلياً وخارجياً لدولة كإيران ولا يبدو في الافق المنظور ان هناك امكانية لاي جهة داخلية او خارجية لاسقاطها على الرغم من الاتساع الاجتماعي – الطبقي لمعارضاتها وخصوصاً بين الشباب والنساء في المدن الكبرى؟
هل تكفي قوة الشرعية الدينية لفئة رجال الدين الشيعة ذات التكوين الخاص الذي لم تكن بنيته في المناطق الشيعية في ايران والعراق وآذربيجان وشبه القارة الهندية وجبل عامل مرتبطة هيكلياً بأي سلطة مركزية تاريخياً منذ تكرس المذهب الشيعي حول مدينة “النجف” بالشكل الذي بتنا نعرفه اعتباراً من المراحل الاخيرة للعصر العباسي فصاعداً والذي لم يكن مؤكداً – اي المذهب الجعفري او الاثنا عشري – انه يمثل مذهب الاكثرية العددية الكبرى بين الفرق الشيعية في العالم كما هو اليوم، خصوصاً في العهد الفاطمي عندما كان المذهب الاسماعيلي على الارجح يمثل هذه الاكثرية بين المسلمين الشيعة – في حقبة ما يسمى الآن في التاريخ الاوروبي “القرون الوسطى”؟
الشرعية الدينية لرجال الدين ليست كافية وحدها لتفسير استمرارية قوة السلطة الحالية في ايران لثلاثين عاماً لا تزال مفتوحة على امد غير منظور، حتى لو ان المجتمع الايراني بات ينظر الى رجال الدين كطبقة حاكمة رغم ضخامة عددها المقدر بين ثلاثماية الى اربعماية الف شخص، متعددي المواقع واساساً كانوا متعددي الطبقات قبل الثورة ولا زالوا انما بشكل اقل الآن.
هل هي القوة الشعبية – الشعبوية وراء هذه القدرة الديناميكية على الاستمرار السلطوي الحيوي؟ لا شك ان جزءاً مهماً من الاجابة على السؤال تكمن في هذه النقطة. اذ ان رجال الدين بامتداداتهم المناطقية والاجتماعية المنطلقة الآن من مركزية السلطة ورغم انهم جسم سياسي متعدد الاتجاهات، لا زالوا قادرين وسيبقون قادرين الى امد طويل على تحريك فئة مهمة واسعة من الشعب الايراني. لنتصور – والكلام هنا بطبيعته محكوم بأن يكون تقديرياً لا محدداً – ان سلطة رجال الدين تستطيع “ادارة” بين خمسة الى سبعة ملايين مواطن ايراني من اصل السبعين مليوناً واكثر الذين باتوا تعداد الشعب الايراني الآن. 5 الى 7 ملايين مدارون بامكانات السلطة المالية والامنية والخدماتية لا يستطيعون فقط ضبط الـ 63 مليوناً الآخرين فقط، بل ايضاً اعطاء طابع “شعبي” للسلطة حتى لو كان الاعتراض الشبابي – النسائي يضم عشرات الملايين. فلنتذكر ايضاً ان الامبراطورية السوفياتية عاشت عقوداً طويلة (سبعة عقود) وهي كانت دائماً تمثل سلطة اقلية صغيرة جداً ولكن فاعلة في المجتمعات التي ضمها الاتحاد السوفياتي حتى بين الروس. بل من الثابت الى اليوم ان السلطة السوفياتية رغم حيوية القوى النقابية والعسكرية في مدن مثل موسكو وبطرسبرغ التي استطاع البلاشفة تحريكها الا انها لم تنطلق – بالمقارنة – من القاعدة الشعبية الواسعة التي انطلقت منها الثورة الايرانية بمعزل عما آل اليه ذلك التحالف الواسع الذي دعمها من تفسخات وانشقاقات… والآن انكفاءات وتململات، ناهيك طبعاً عن الطبيعة العنفية جداً التي واكبت سيطرة البلاشفة بعد العام 1917 في حين رفض شاه ايران – جوهرياً – خيار التصدي العسكري للتظاهرات الشعبية في الاسابيع الاخيرة من وجوده في طهران، وكان قراره المذهل بمغادرة ايران وتعطيل دور الحرس الامبراطوري بحيث منعه من اطلاق النار الشامل الجدي على المتظاهرين بعدما ادرك رغبة قطاعات واسعة جداً بالتغيير… (وهذه نقطة سينصفه – اي شاه ايران – التاريخ فيها لاحقاً)… هذا الفارق سيظل يطبع لامد طويل احد وجوه الاختلاف بين السلطتين السوفياتية والايرانية، وان كانت التماثلات قائمة – وعميقة ربما – على مستويات اخرى وعلى رأسها مدى قدرة دولة “صغيرة” بالنتيجة كإيران قياساً بالاتحاد السوفياتي على بناء قوة عسكرية – بما فيها نووية – على قاعدة اقتصاد ضعيف ومتراجع، انتهى في الحالة السوفياتية الى المساهمة الاساسية في الانهيار السلمي لتلك الدولة التي لم تبلغ ايران يوماً قوتها لا الصناعية ولا العسكرية.
التجربة الاقتصادية، كقوة انتاجية، هي تجربة وخيمة في التاريخ الايراني الحديث قياساً بالكفاءة الامنية – السياسية على ادارة الصراعات الداخلية والخارجية. وهنا تحضر دائماً المقارنة مع التجربة التركية الصاعدة كنمر اقتصادي في المنطقة والعالم والتي من المسلم انها تصنف حالياً الاقتصاد السابع عشر على المستوى الدولي وداخل اوروبا الاتحادية تتقدم على دول كثيرة، في مقدمها اليونان والبرتغال، وتتساوى مع اسبانيا.
ثلاثون عاماً عندما بدأت كان فيها الشعار الاسلامي في ايران شعاراً توحيدياً على مستوى العالم الاسلامي. لكن تحولات عديدة جعلت هذه القدرة التوحيدية تفقد زخمها مع انتقال الحركات الاصولية السنية والشيعية في التسعينات ولا سيما بعد العام 2000 الى مرحلة الصراع المذهبي مع ولادة “طالبان” و”القاعدة”… وان كانت ملامح الحقبة الثالثة بدأت تظهر بانكفاء تدريجي لهذه الموجة لم يتكرس بعد ولكنه ارتبط بتغير الاوضاع في العراق… ويساهم فيه حالياً التحالف الجدي الناشئ بين ايران ومعظم تيارات “الاخوان المسلمين” الاساسية في المنطقة والمختلط بتحولات كبيرة على المستوى الجيوبوليتيكي.
هنا نصل الى احدى تغيرات الثلاثين عاماً الاساسية من الزاوية الايرانية:
لقد انتهى زمن “تصدير الثورة” الايرانية في تأثيراته على تشكيلات ايديولوجية تحولت الى قوة ناجحة في بيئتها، مثل “حزب الله” في لبنان وبعض القوى في دول اخرى ليبدأ زمن ما يمكن ان نسميه “تصدير السلطة” مع النجاح المهم في الاختراقات الجيوبوليتيكية الجدية التي حصلت في السنوات الاخيرة في العراق، ومع التحالفات المتصاعدة التي تجسدت في فلسطين (“حماس”)… والتي تحوّل فيها حتى “حزب الله”… المنتوج الاصلي الايديولوجي الصافي للثورة الايرانية الى استثمار متأصل في البيئة اللبنانية عبر التحوّل الى الحزب الرئيسي للشيعة في النظام الطائفي اللبناني وفي الصراع مع اسرائيل…
من قوة ثورة متراجعة… بل ضامرة الى قوة جيوبوليتيكية متقدمة… هكذا هي نهاية الحقبة الثلاثينية… فما عمر الحقبة الآتية او بسؤال آخر:
متى الثورة الايرانية الثانية على…؟
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى