الجدال حول تبعات الأزمة المالية
هرفي كامبف Hervé Kempf
ترجمة: محمد صدام
أربكت الأزمة العميقة، التي ضربت القطاع المالي وشملت تباعا مختلف المراكز الرأسمالية في العالم المصنّع، الثقة المتناهية التي ما فتئت تتمتع بها الرأسمالية، منذ انهيار حائط برلين وسقوط التجربة السوفيتية. وخلّفت تساؤلات عدّة حول قدرة النظام الرأسمالي على تجاوز التناقضات التي احتدمت في صلبه، وعلى إيجاد السياسات التعديلية الضامنة لاستمراره ودخوله في مرحلة جديدة، كما كان يفعل عقب كلّ أزمة عميقة من أزماته السابقة. وتعمل الحكومات الليبرالية الغربية حاليا على مجابهة الأزمة الراهنة براغماتيا وتسخـّر مئات المليارات من الدولارات لإنقاذ قطاع البنوك من الانهيار رغم تشكّك الخبراء والرأي العام في شفافية هذه العملية. ذلك أنّ عمق الأزمة زعزع الثقة في صلابة الأسس الاقتصادية والاجتماعية للرأسمالية كنظام مستقرّ يوفّر الرخاء والشغل وتحسين أحوال الناس، فإذا به يدفع بالملايين منهم من جديد إلى البطالة والفقر والمعاناة. إنّ هذا الواقع المتأزّم الذي أحدثته الرأسمالية المالية بجشعها وتهوّرها الاستغلالي المفرط قد ثلم الصورة الجميلة التي كوّنتها الإيديولوجية الليبرالية عن نفسها وصدّرتها إلى العالم. ولقد تتابعت منذ مدّة المحاولات لترميم الواجهة الإيديولوجية لليبرالية المتأزمة، كانت آخرها الملتقى الذي نظمته كتابة الدولة الفرنسية للاستشراف والذي جمع ثلّة من كبار الاقتصاديين المشهورين من أمثال جوزيف ستيغليتس وأماريتا سان وغيرهم المحرزين على جوائز نوبل في الاقتصاد وكذلك عددا من المسئولين الأوربيين الحاليين أو السابقين ( ساركوزي، أنجلا مركال، طوني بلار، ميشال روكار…) تحت شعار”عالم جديد، رأسمالية جديدة”. ونورد في ما يلي تعليق الخبير الاقتصادي بصحيفة ” لومند ” “هرفي كامبف” عن فعاليات هذا الملتقى وقراءته لبعض المواقف التي طرحت خلاله. (المترجم) طريق ما بعد الرأسمالية هل تستطيع الرأسمالية العيش بعد الأزمة؟ كان هذا هو السؤال المطروح بطريقة ضمنية خلال الملتقى المنظم من قبل كتابة الدولة المكلفة بالاستشراف بالاشتراك مع صحيفتي “لومند” و”فينانشيال تايمز” يوم الخميس 8 جانفي 2009 بباريس تحت شعار”عالم جديد، رأسمالية جديدة”. وكان كلّ شيء قد رُتـِّب ليبقى فوق سكّة النظام الاقتصادي السائد، كما أكد على ذلك “باسكال لامي”، المدير العام للمنظمة العالمية للتجارة، بطريقة تهكمية: «إنّ جدول الأعمال لا يتضمّن البحث عن بدائل للرأسمالية – بين قوسين، هذا لا يعني أنّي أنخرط في فكرة تقول لا وجود لبدائل- وأغلق القوسين لأبقى سياسيا مناسبا.» غير أنّ اختلالا ما حصل أثناء هذا اليوم (الدراسي)، فتحْتَ مظاهر متمدنة لملتقى رسميّ، فرضت خطورة الأزمة مراجعةً للأفكار المسبقة. صحيح أنّ السيد ساركوزي حاول عزل الفيروس، وحمل على المالية لإنقاذ ما هو أساسيّ:« لقد حرّفت الرأسمالية المالية منطق الرأسمالية. (…) إنّ الرأسمالية هي الجهد، وهي العمل وروح المبادرة، وهي الملكية الخاصة والاستثمار بعيد المدى. (…) لكنّ أزمة الرأسمالية المالية ليست أزمة الرأسمالية. (…) ولا تستوجب تقويضها – الذي قد يكون كارثة – بل فقط تهذيب أخلاقها». أمّا “مشيال روكار” النائب الاشتراكيّ في البرلمان الأوروبي فقد جاء مساندا للموقف المحافظ لـ”ساركوزي”:« يجب أن نطلق من هذا: نحن نريد المحافظة على الرأسمالية!» فما أبعدنا عن تلك المواقف التي عبّر عنها “جان جوريس” في جداله المشهور مع الماركسيّ “جول قايد” Jules Guesde:« إنّ الحزب الاشتراكي هو حزب معارض باستمرار وعمق للنظام الرأسمالي ككلّ». غير أنّ الإجماع الظاهريّ سوف ينهار بفضل الدعوة التي أطلقتها المستشارة الألمانية “أنجيلا مركال” للرجوع إلى الواقع:« يتحتّم على البلدان المصنّعة أن تفهم جيّدا أنّنا كنّا نعيش فوق إمكانياتنا. لقد أخذنا دَيْنا على المستقبل من غير أن نكون قد أنتجنا ما يقابله من القيمة في الاقتصاد الحقيقي، وعلى المدى الطويل لا يمكن أن لا تنجرّ عن هذا نتائج وخيمة». وتجاه الذين قد لا يريدون سماع مثل هذا الكلام، كرّرت المستشارة مرّتين: « لقد كنّا نعيش فوق إمكانياتنا»، معبّرة هكذا عن انشغالها للتداين المذهل الذي راكمته الأسواق المالية ثمّ الحكومات. إذن، كان يبدو واضحا أنّ المشكل لم يكن يكْمن ببساطة، في التسيير الرديء للنظام المالي. ثم إنّ العديد من الخبراء سوف يكرّرون ما حوصله “جوزيف ستيغليتس” Joseph Stiglitzالمحرز على جائزة نوبل في الاقتصاد: « هذا ليس خورا أصاب الأسواق المالية فحسب، إنّه أعمق من ذلك بكثير». وكما لاحظ ذلك في الواقع الخبير الاقتصادي “جان بول فيتوسي” Jean-Paul Fitoussi « الرأسمالية هي شكل تنظيم تاريخي ومتموضع، خرج من أنقاض النظام القديم. مما يعني أنّ مصيره ليس منقوشا على الرخام». توازن جديد لقد اتّضح إثر ذلك أنّه يجب أن نبحث عن جذور الانتشار الهائل للفقاعة المالية وللتداين، في المسألة الاجتماعية. لقد قادت « الأجور الباهظة وانفجار عدم المساواة » إلى تعطيل النظام العامّ. فحسب السيد “فيتوسي” «ليست الأزمة المالية سوى عَرَض من أعراض أزمة كامنة منذ الثمانينات – أزمة توزيع للمداخيل: فمن أجل الإبقاء على مستويات الاستهلاك، كان لزاما على الأسر وعلى الدول أن تتداين. وقد شكّل هذا التداين الخبز المبارك للنظام الماليّ الذي وفـّر القروض لمن لم يعد قادرا على الاستهلاك. وهنا حصل الانخرام المالي: لا يمكن إقراض الذين لا يقدرون على تسديد ديونهم». على أنه كان علينا انتظار تدخّل “يوتير بوص” Wouter Bos الوزير العمالي للشؤون المالية في هولندا كي نخرج بالنتيجة التالية: إنّ تقلّص التداين وبالتالي تقلّص الاستهلاك العامّ لا يستطيع أن يتحقّق إلا مصاحبا بتقلص للفوارق. وقد حوصل السيد “بوص” بشيء من الهزل كم أنّ الأزمة قد أربكت إطار الفكر: « أوّل شيء قمت به كي أبدو زعيما اشتراكيا عصريا كان أن حرّرت سنة 2003 إعلان مبادئ. لقد كانت الطريقة التي يبين بها الزعيم الاشتراكي أنه عصريّ تتمثل في التراجع عن خطّ الاشتراكيين- الديمقراطيين القائل بتأميم البنوك. هذا ما فعلت! وهكذا كنت عصريا… غير أنّنا، منذ شهرين، أمّمنا البنوك! » إذا كان السيد “بوص” كرّر ما قد قاله الكثير من المتدخّلين حول ضرورة تعديل الأسواق المالية – إلى درجة أصبح فيها الأمر بديهيا ننتظر ترجمته إلى أفعال – فإنه ذهب إلى أبعد من ذلك: « سوف لا نخرج من النظام بمجرّد أن يكون لنا تعديل أكبر للفائدة وإشراف أحسن على التسيير. (…) فالمجتمع الرأسماليّ يحتاج إلى جدال حول توازن جديد بين ” نحن نريد دائما أكثر” من جهة و”نحن عندنا ما يكفي” من جهة أخرى، بين أرباح مشطة بالنسبة للبعض وعجز هائل بالنسبة للجموع». ولا يكتفي السيد “بوص” بالكلمات: فنجده يعمل في هولندا، أين توجد قاعدة تنظيمية حقيقة حول أجور كبار الإداريين، من أجل تحديد سقف لهذه الأجور أي من أجل ضبط دخل أقصى يمكن قبوله. وبتنسيبه لأهمّية الاضطرابات الاقتصادية، يعدِّل السيد “بوص” ساعة أخرى: « إنّ الأزمة الاقتصادية ليست أخطر مشكل يواجهه النظام الرأسمالي. فالأزمة المناخية سوف تصبح تدريجيا أكثر أهمية، والأزمة الغذائية في استفحال بينما نحن لم ننجح في حلّها. فهاتان الأزمتان هما أكثر جوهرية من ديمومة الرأسمالية. وهما تطرحان علينا تحدّيا أخلاقيا خطيرا، غير أنه بالإمكان ربطهما بذكاء بحلّ الأزمة المالية». في نهاية هذا الملتقى اتّضحت صورة كهذه لما يمكن أن يكون طريق ما بعد الرأسمالية رغما عن “المحافظين” من أمثال “ساركوزي” و”روكار”: تخفيض فائض الاستهلاك بواسطة تطهير الدَّيْن؛ عدالة اجتماعية بتقليص الفوارق؛ تبطين التكاليف البيئية (التي أثارها النائب الكندي “توماس مولكار”) من أجل التصدّي للأخطار الإيكولوجية. لم يكن غائبا إلا التساؤل حول ملكية وسائل الإنتاج – هل تكون الأشكال التعاونية للإنتاج أكثر جدوى من نموذج الملكية الخاصة؟ – لفتح الباب للبدائل التي تحسّر على عدم تناولها السيد “لامي”. ولكن، إذا ما طوّر الواقع العقول على هذا المنوال، فإنّ هذه المسألة، التي لا تزال تعتبر اليوم استفزازية، سوف تدخل قريبا إلى المنتديات الرسمية. نشر المقال بصحيفة “لومند” بتاريخ 15 جانفي 2009