صفحات ثقافية

مديـــح التعـــدد

null

عباس بيضون

من مديح التعدد في لبنان الكلام عن التعدد الثقافي. الغريب ان المديح هو غالباً لغة لتناسي الكارثة. اننا نفخر في حين اننا لا نريد ان ننظر للداخل. نفخر في حين ان لا شيء في ايدينا سوى مرضنا الطويل وصراعنا الطويل مع الداء.
نزداد فخراً كلما ازددنا ضعفا، كأنما المديح هو ايضا لغة اليأس. نقول تعالوا انقذوا هذا الحيوان المولود برأسين او برؤوس عدة. هذا التوأم السيامي، هذه العجيبة الثامنة او التاسعة. نتكلم عن أنفسنا كأننا آخر غزال من سلالة مليونية. نهدي أنفسنا الى الثقافة والى البيئة والى المتاحف كلها. تعالوا انقذونا. من مديح التعدد. نتكلم عن التعدد الثقافي. لو استطعنا لقلنا اننا الفراشة بألف لون. ان لا احد غيرنا يتكلم بلغتين او ثلاث. ان لا احد سوانا يجمع دينين او ثلاثة. نحفظ بالطبع هذا الكلام عن اننا رسالة وذلك الكلام عن اننا نموذج وذلك الكلام عن اننا عجيبة. لن ننتهي من ذلك المديح بالطبع. سننتهي بأن نتكلم عن أنفسنا بضمير الغائب، ذلك، بل ربما بضمير الاثري، ان نتكلم عن مخلوق مربع الرؤوس والأعين والأيدي، عن حية تلتهم نفسها، عن طفل بثلاثة ألسنة. سنحب بالطبع تلك الاكزوتيكا، السعيدة عنا لانها تسعد الناس، سنبتهج نحن كالآخرين بتلك الاسطورة، سنتأمل في أنفسنا ذلك الحيوان المزدوج الذي كرسه الغير. لن ننتهي من بيع تلك القصة لان العالم بحاجة إليها. بالطبع لن نجد كلاماً افضل عنا وسنصل الى ان نصدقه. من المهم ان يكون كل ذلك حدث في اطار التعدد. البنادق والحزازات والكراهية وحتى المجازر الصغيرة والقنص القويم وكاتالوغات الاعضاء البشرية ومئات آلاف القتلى والمعاقين الذين اختفوا فجأة من حياتنا. من الممكن لكل ذلك ان يجد حياة ثانية، ان يجد زخرفاً مناسبا في تلك الفسيفساء الرائعة التي يسمونها التعدد. سنقول ان كل ذلك مسألة ثقافية وان كل هذه السفالة يمكن ان تندرج بسهولة في نطاق حوار او صراع الثقافات. سيكون ذلك حلما انثروبولوجيا وسنروح نحن او رحنا نبحث تحت كل حجر عن التعدد. انه مديح الاختلاف ايضا، وعلينا ان نقدم طائفة مناسبة من الاختلافات الجميلة، بل علينا ان نُعلم عن كل اختلاف ونعطيه فوراً بطاقة مناسبة او ربما نحتفل به ونجعل منه فارقاً. انه «علم» مفلت على عواهنه ويخوض فيه متمرسون وهواة، اساتذة وتلامذة، خبراء وفضوليون. الجميع بعد ان غدا الكلام كله حول الطوائف يملك منذ الآن روايته الانثروبولوجية الخاصة. انه علم الخواص الطوائفية اللامتناهي يفرخ ما شاء من الثقافات، ويمكن ان نحتفل هكذا اكثر فأكثر بالتعدد ونضيء «الرسالة» ونقيم النموذج. سنجد الفروق في اللهجة واللكنة والصوت والملبس والمأكل والمشرب والطبائع والبطالة والفراغ والسهر والتبادل والمنازل والهوايات والردود والعلاقات كلها. انه بلد صغير، صغير للغاية لكنه اوقيانوس من الاختلافات: بلد صغير لكنه قارات من الثقافات المتوازية المتصارعة. ينبغي ان نقدم شيئا مناسباً لإله التعدد، ان نمتدحه في كل شيء، في هذا السبيل سيكون كل تماثل مكروها ومريباً، في هذا السبيل لا قيمة لأي تشابه. لن يكون لأي من ذلك وزن في الحديقة الانثروبولوجية التي هي لبنان. علينا ان نجمع الفروق وان نرى الى أنفسنا كمختلفين خالدين وبلا هوادة. سيكون الاختلاف رسالتنا وسنخدمه برموشنا كما يقال. سيقال اننا ننام ونحب ونكره وندبر نفوسنا وأجسادنا ونأكل ونشرب ونعيش ونتصرف ونتكلم على نحو مختلف. في النهاية سنجد في هذا البلد الصغير الأنواع المطلوبة ولن نفكر في زحمة السعي الى التعدد الحر اننا نقيم من الطوائف اثنيات وثقافات كاملة، وان هذا قد يخرج عن مديح التعدد الى شيء آخر، لن نتعجل بتسميته، لكن الباب مفتوح في ذلك للكلام عن تمايزات وتمييزات، ان مديح التعدد قد ينتهي في عجلته الى مديح التمييز او قد يكون بدون وعي غطاء لنعرة كهذه. ننسى ان الصراع كان ايضا مخاض تبادل، وان هناك فوق اللغة الواحدة كل روح الغزو والاغتصاب والتكتل المافياوي والبارانويا الهاذية، ناهيك بالفولكلور والمعاش والتشابكات الاخرى. فبالرغم من كل شيء كان الصراع اقرب الى ان يكون ثمن التشابك والاحتكاك والتقارب اكثر منه ثمن الاختلاف والتباعد، التعدد بالطبع لكن بلا اسطورة.

«الغيتوات» الثقافية والسياسية مبتكرة ايضا. انها ثمن آخر للاحتكاك والتشابك، بل هي اختراع للتحصين ضدهما، ومن العبث ان نتكلم عنها كحقائق دائمة وعن الجماعات كأنواع متفارقة. ان الانقسام «الطبيعي» للمجتمع نفي آخر ومن طريق غير متوقع للبنان، في حين ان المسألة اللبنانية قد تكون تراجيديا التماس والاقتراب والتشابك. قد يكون الوضع الحالي هو الثمرة المرة لتعدد يتصارع عليه الجميع ويشترك فيه الجميع. بل قد يكون التحصين الدموي لجماعات تخشى ان تفقد لاسباب ما، ميزاتها وتمايزاتها. أليس الصراع الحالي في لبنان صراعاً على الامتيازات لا الحقوق، انه صراع ضد تساو وضد تماثل باتا ماثلين في سياق التشابك اللبناني. مديح التعدد، مديح اللغات الثلاث، مديح الاقليات من كل نوع، مديح الازدواج الثقافي، كل هذا قد يصلح كليشيه مقبولة على الاقل. التعدد، نعم لا حديقة الأنواع لا قارات الاختلاف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى