صالح بشير
حسام عيتاني
ضاقت رقعة الأسئلة والحق في طرحها، بغياب صالح بشير. لعل رحيل كاتب اختار الابتعاد عن الأضواء لا يجذب صخب المراثي ولا عويل المنتحبين. لكن قيمة بشير تبرز، في هذه المرحلة العربية، تماما في خسارته كصوت وقلم من فئة باتت معرضة للانقراض، عنينا فئة الكتاب العقلانيين الممتلكين لأدواتهم المعرفية والقادرين على مساءلة مجتمعاتهم وسلطاتها المختلفة والمتخلفة بذات الروح النقدية التي يخاطب فيها الهيمنة الغربية.
ربما لم يكن صالح بشير من الكتّاب الغزيري الإنتاج، فأكثر ما كتب مقالات أسبوعية جهد صاحبها الى إلقاء ضوء على الزوايا الأكثر ظلمة وابتعادا عن صدارة الأحداث. وباستثناء مشاركته حازم صاغية في تأليف كتاب «تصدع المشرق العربي»، لم يهتم الرجل بجمع مقالاته أو ضمها بين دفتي كتاب. لكن المقالات المتناثرة والمتفرقة على عدد من الصحف والمجلات، تتسم بذات الدقة والحرص على صحة التشخيص للظواهر المتحكمة في عوالم السياسة والثقافة العربية. وبالعودة الى «تصدع المشرق العربي» يمكن القول، وبراحة ضمير، إنه من الكتب العربية النادرة التي تحمل طرحا مختلفا في تناول مشكلات التفتت الطائفي والسياسي ودورها في تحويل قضايا مثل الصراع العربي ـ الإسرائيلي والحالة العراقية، على سبيل المثال، الى معضلات غير قابلة للحل.
وتعيد وفاة صالح بشير طرح السؤال: ما الذي يؤثر حقا في الجمهور العربي؟ لقد رحل الكاتب التونسي في وقت تتفاقم فيه علل التناول الإعلامي (واستطرادا الفكري والثقافي) لقضايا العالم العربي. دعونا لا نقلل من خطورة الموجة العاتية والقابضة اليوم على مفاصل حساسة في صناعة الوعي والرأي العربيين. موجة لا تبالي بتغييب الجوانب السياسية، بالمعنى الحديث للكلمة، لمصلحة شعارات أصحابها هم أول العاجزين عن تحويلها الى حقائق.
ربما تبدو هذه الكلمات عامة وتفتقر الى المعنى، لكن ينبغي وضعها على خلفية الخسائر المتراكمة في عالم الثقافة والأدب والصحافة العربية، والتمعن في من يطرح نفسه بديلا، لإدراك الخطر الحقيقي الذي يحيط بما بقي من جزر ونتــوءات للتفكــير النقدي في العالم العربي السائر نحو إعلان الاستسلام الكامل للظلامية والشعبوية.
يجب تقييم خسارة صالح بشير من هذه الزاوية. لعل الرجل تمسك بأسلوبه الأنيق في الكتابة الذي أخذ البعض عليه «نخبويته»، كرد أو كبعض رد على تعميم الرثاثة والتفاهة عبر الشاشات والصحف والمواقع الالكترونية. كانت كلمات صالح بشير الحصيفة التي لا تساوم في وضوح معناها، مساهمته في الاعتراض على سياسة إغراق القارئ والمشاهد بكل ما يمكن تصوره من مهملات التفكير والسياسة، بذرائع تتراوح بين النزعة الاستهلاكية وبين الالتزام اaلغيبي.
لم نكن في حاجة الى صداقة خاصة مع صالح بشير لنشعر بفداحة الخسارة. موعدنا كان يتجدد كل يوم أحد بقراءة مقال يحمل العناية في التفكير والصياغة والرهافة في التعبير. وهذه صفات تتعرض، بدورها، الى هجوم كاسح من مقالات وكتابات ومدونات تقوم على رفض الحق في التفكير، مجرد التفكير السليم البسيط، قبل أن يتبرعم ويرتقي الى مستوى النقد والتماسك المنطقي والتكامل.
رحيل صالح بشير علامة مقلقة إضافية تتطلب من القارئ ومن المشاهد العربي التدقيق في ما يقرأ وما يرى في زمن الخداع والظلال، وان يقبل القارئ هذا بحقيقة أن القضايا المعقدة لا يمكن في كل مرة التطرق اليها بكلمات بسيطة. والتعقيد والارتباك سمتان أساسيتان من سمات العصر العربي الراهن الذي يضع الجميع بين خيارين: الاستسلام الى الشعبوية والعدمية أو الإصرار على امتلاك ناصية الحرية الفكرية التي امتلكها صالح بشير من دون منة من أحد.