طوبى للغرباء أمثالنا
محمد الحداد
اليوم الخميس 19/02/2009. فتحوا عليه الدار، دخلوا المكتب، وجدوه أمام جهاز الكومبيوتر وعلى يمينه منفضة سجائر ضخمة. ما الغريب؟ لقد عاش صالح بشير نصف حياته يكتب ويدخّن، وعاش النصف الثاني يحلم. قالوا: لكنه هذه المرّة لا يكتب مقالاً، لقد أتمّ المقال الأخير ووضع نقطة النهاية وجلس ساكناً وعيناه ثابتتان بلا حراك. هذا غريب فعلاً، إذا توقف صالح عن الكتابة فكأنّ الأرض تتوقّف عن الدوران… لكنهم وجدوه هذه المرّة جثة هامدة.
قليلون يعرفون صالح بشير في شخصه، لقد كان لدى الآلاف مقالاً منشوراً على مدى ثلاث وثلاثين سنة في صحف ومجلات شتى، يقرأونه من دون صورة ولا وجه. ولم يكن وارداً أن يتوقف عن الكتابة ولم يبلغ الستين من العمر، فما زال الدرب طويلاً وما زالت طلبات رؤساء التحرير كثيرة. ثم ماذا يفعل صالح بشير إذا لم يكتب؟ الكتابة كانت منه الوجود والماهية. كتابة وسجائر، هذا برنامجه اليومي، حتّى تحوّل إلى مقال لا ينضب. وما دون ذلك فلا يدري أحد، نحن خاصة أصدقائه لم نكن نعلم أنه يعاني مشاكل في القلب. «أنا والده لا أعلم عنه شيئاً»، هكذا قال لنا ذلك الشيخ الذي جاوز الثمانين وهو واقف يتقبل العزاء في ابنه، كان يرشح من نظراته حزن وشموخ، وتنبعث من جسمه البالي قوة نظر لا تقاوم، رأينا فيه بعض ابنه، الاعتراف الوحيد الذي باح به صالح لنا ذات مرة في نصف كلمة محرجة متلعثمة أنّه يحبّه وأنّه يرجع إلى تونس ليرعاه عند موته، لكنّ الأب هو الذي دفن الابن، كما كان صالح قد دفن ابنه في ربيعه الثاني والعشرين. لا تلوموا صالح على غرابته، فقد كانت الأقدار معه غريبة أيضاً، وكان قد قرّر منذ البداية أن يواجه غرابته وغرابة الدنيا معه بالكتابة.
كنّا نسير تحت مطر مدينة أوروبية، أنا أمشي، وصالح يدخّن ويمشي. توقف فجأة واقترب منّي، رأيت ملامح طفولة كانت تظهر فيه بين الحين والآخر عندما يرغب في أن يبوح بشيء ثم يسكت، فجأة قال لي: أنا متعب! متعب من المشي؟ تريد أن ندخل إلى مقهى؟ لا، أنا متعب من الكتابة. وانطلق صالح على غير عادته في مونولوغ طويل، والمطر يشتدّ على رؤوسنا وهو لا يبالي، لم تكن من عادة صالح أن يكشف عن مشاعره، لذلك لم أقاطعه على رغم المطر، بعد ثلاث وثلاثين سنة من الكتابة تساءل: لماذا يكتب؟ وما سرّ هذه الرغبة المحمومة لديه في الكتابة حتى إفناء الذات؟ وانطلق يستعرض مسيرته الصحافية في مزيج من النخوة والخيبة…
صداقتنا الطويلة لم تغيّر شيئاً من تقاسم الأدوار بيننا، كان يقول عني انني منظّم مثل ساعة سويسرية، وكنت أقول له إنه أكبر فوضوي في العالم. كانت مهمته أن يطلق النقاش، وكان خزّان أفكار لا ينضب، وفي كل نصف ساعة يفاجئك بعشر أفكار جديدة ويرسم عشرين مشروعاً، وكانت مهمتي أن «أمنهج» النقاش وأقرّر حدود العملي والممكن. قضينا جزءاً من الليل نناقش: لماذا نكتب؟ نحن لا سلطة ولا معارضة، لا يسار ولا يمين، لا ننتمي الى حزب أو منظمة، لم نشأ ذلك ولا نتباهي به، لكنه كان قدرنا. يقرأنا الناس ولا يهتمون بنا، لأننا خارج الانتماءات والتقسيمات، بل ربما كانوا في أعماقهم يسخرون منا، نحن الذين نريد أن نشاركهم شؤون العالم وكلّ عدتنا قلم حبر من النوع الرخيص.
كنّا آخر من بقي في المطعم، استعرضنا آراء المفكرين في الموضوع، من أفلاطون إلى جورج باتاي، فلم يعجبنا من آرائهم شيئاً، ومن طبع صالح أنه لا يعجبه العجب، حان وقت المغادرة ولم نصل إلى نتيجة، ثم فجأة توصلنا إلى القرار الأخير: لن نتوقف عن الكتابة كي لا يغضب حازم صاغية، هذا خطّ أحمر لا مجال لتجاوزه، ففي سلّم القيم كانت الصداقة لدى صالح القيمة الأولى وأقدس المقدسات، ولذلك كان يقع سريعاً ضحية الغدر على رغم فرط ذكائه، كان يظنّ أن الصداقة قيمة مشتركة بين الجميع. وكان أحد أسباب نقمته على الأيديولوجيين بمختلف أصنافهم وألوانهم أنهم يدوسون القيم الإنسانية البسيطة لاعتقادهم أن ما يعتقدونه الحقيقة يعفيهم من الالتزام بهذه القيم ويبرّر لهم كل شيء.
ترك صالح أسرته وضاعت عنها أخباره مدة ثماني سنوات قضاها في بيروت، ثم عادت اليهم بعض أخباره بانتقاله إلى فرنسا، ثم حلّ بينهم فجأة بعد ثلاث وثلاثين سنة من الغياب، ثم رحل عنهم وهم بعد لم يستوعبوا حدث عودته. وكان صالح سعيداً حقّاً بعودته إلى تونس، وكان يفكّر مع صديقنا حسان في مشروع ثقافي يتحرّر به من ثقل الكتابة المستمرة في الصحف، وللمرة الأولى في حياته، وقد قارب الستين، اشترى ثلاجة وبعض متاع للبيت، لا، بل إنه بدأ يفكّر في شراء بيت أيضاً! كان يريد أن ينظم حياته ويفتح صفحة جديدة، وما علم أن خلايا جسمه غير مبرمجة لذلك وأنّ قلبه لن يطاوعه. كان من مشاريعنا أيضاً أن نقترح على مجموعة من المثقفين العرب صوغ بيان عن الاستقلالية الثقافية، كنا نودّ أن تعود الكتابة غاية لا وسيلة لتحقيق مآرب أخرى، أن تكون قيمة قائمة بذاتها، أن تنفتح مجدّداً على العالم ومشاغله بعد أن خنقها اليمين واليسار. التقطنا أحد من يشاركوننا هذا الهمّ بمناسبة ندوة، لكن صالح لم يحضر في الموعد، رأى أن لحظة صفاء سعيدة أفضل من ألف بيان، وكان على حقّ، لذلك لم أغضب عندما أُجهض مشروعنا السابع والسبعون.
صالح بشير، أنا وأنت قضينا عشرين سنة نبني المشاريع لتنهار، ونتخذ القرارات الحاسمة لنضحك منها يوم غد، إلا قراراً واحداً، لقد اتفقنا على مواصلة الكتابة، وبالأسلوب نفسه الذي يعدّونه منا تعقيداً وتعالياً ونراه حدّاً أدنى كي لا يصبح مستوى الكتابة في مستوى حديث المقاهي. هذا خطّ أحمر لا يمكنك أن تدوسه. لا تجعل مقالك هذا المقال الأخير، خذ دمعة حزن تمحي بها نقطة النهاية، أضف سطرين نسمع فيهما همس صوتك، اكتب فقرة أخرى نلتقي فيها لقاء جديداً، أنت الذي حبّرت آلاف المقالات، هل يعييك أن تكتب مقالاً آخر بعد المقال الأخير؟ حازم سيغضب، القلوب التي أخلصتك الصداقة ستحزن، ليندا لن تذهب معك إلى البحر ولن تشتري لها «الشكلاطة»، وأنا وأنت لن نلتقي على ملحق «تيارات» يوم الأحد.
لكنّ صالح مضى، مقتفياً آثار ثلاث نقاط استرسال ينتهي بها المقال. فعلها ومضى، مات كما عاش، غريباً منفرداً بقراره، كان كالرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى… ثم لم يعثر له على أثر، لم يكن من قوم موسى ولا من آل فرعون، فلم يسجّل على دفاتر الانتماء، عاش غريباً ومات غريباً، فطوبى للغرباء…
الحياة