بلا عنوان… أو نعي للنفس
نهلة الشهال
عجزتُ عن تناول موضوع سياسي هذه المرة، وعلى الصفحة التي جمعتنا منذ… عشر سنوات، بعد صداقة تعود إلى أبعد من ذلك بكثير. كان وجه الصالح بشير، الدمث الهادئ حد التواري، يطل على شاشة الكومبيوتر صامتاً، مبتسماً ابتسامته الخفيفة تلك – هل شاهد أحدكم الصالح يقهقه؟ – كأنه يعتذر عن فعلته، ولكنه يقول ها قد رحلتُ وتخففتُ من عبء الوجود. ودّعْنا في السنتين الماضيتين أكثر مما ينبغي من أحبة، أكثر مما كنا مهيئين له. بل لم نكن مهيئين البتة. أحار فيما إذا كانت تلك نقيصة في وعينا، أم أنهم رحلوا قبل الأوان. هل شُخنا في غفلة منا، وبقينا غير مدركين أننا لم نعد شباباً كما نعامل أنفسنا. لم نعد، وصارت الأمراض قادرة على الفتك بنا، نحن الذين لم نلجأ يوماً الى طبيب، واستخففنا بأوجاعنا، متجاوزين علامات ما تعني كما نتجاوز الواقع المؤلم المحيط بنا: بتلقائية كأنها البداهة. وهي شكل من الإرادوية، من التمسك بروايتنا للأشياء، حيث بصيص نور نراه نحن بيقين، وسط انصراف سوانا إلى تدبر تفاصيل أيامه طالما الظلام دامس. أم أنه استباق لموعد لا يفلت منه أحد، ولكنه حين يأتي في أوانه يكون مقبولاً، لا يثير الغضب الشديد حيال انقصاف أعمار… شباب. ها قد عدتُ إلى اعتبارنا شباباً!!
في ما مضى، وإزاء حوادث مشابهة، ظننتُ أن تلك العلة لبنانية محض، تعود إلى اختزال عقلي/ شعوري لخمسة عشر سنة على الأقل، هي سنوات الحرب الأهلية اللبنانية التي صادفتنا ونحن في العشرين من أعمارنا، وتركتنا (مترددة) وقد بلغنا الأربعين، مفوِّتة في طريقها جيلاً كان أصغر مما ينبغي وقتها، تفتح وعيه وسط الاحترابات والركام، فضاع. نظرية كاملة!! يمكنني الاستمرار في التمسك بها، مضيفة الصالح بشير إلى أعداد من تشمل، لأنه ككثير من أقرانه من المغرب العربي، كما من العراق وبعض الخليج، حضر وهو في العشرين إلى بيروت، ملتحقاً بتلك البؤرة الثورية يومها، تاركاً خلفه واقعه المحلي العصي، والأهل، والسياق العادي لحياة البشر.
ففي السياقات العادية لحياة البشر، ينهي شهاداته من يحالفه الحظ للدراسة، ثم يبحث عن عمل، ويتزوج ويخلف الأولاد، ويكبر رويداً، يساعده إيقاع مستقر، شخصي ومجتمعي، على إدراك مرور السنين عليه، وعلى التأقلم وفق مقتضيات ذلك. تلك الثلة من جيلنا نال أفرادها شهاداته و/أو حصّل قسطاً عالياً من الثقافة، وعمل كما توافر له، وتزوج وخلّف الأولاد، ولكنه كمن فعل ذلك عرضاً، اقتناصاً، بينما بقي «الأمر الرئيس» معلقاً. وجدتُ بعد الملاحظة، أنها أيضاً حال العراقيين مثلاً، الذين تشتتوا في أربع أصقاع الأرض بدءاً من سبعينات القرن الفائت، فعلّق المنفى أعمارهم، ثم ساعدهم في القيام بذلك الاختزال العقلي/ الشعوري للزمن، رؤية بلادهم عن بعد تمر بحروب طاحنة متلاحقة. وحين يعود واحدهم إلى أهله اليوم، يفاجأ بغياب أبويه مع أنه أبلغ بوفاتهما حينها، يفاجأ بالشيب يغطي رأس أخوته الأصغر منه سناً، وأنهم باتوا… أجداداً! هل لسنوات السجن المديد المفعول ذاته؟ لعل الاعتقال يبقى حدثاً فردياً وإن طاول كثرة، بينما الحروب تقيم جسراً بين اضطراب إيقاعين، ذاتي وعام. وعلى أي حال، فلا يهمني التمسك بنظريتي هذه، وإنما الجأ إليها كسعي لعقلنة الحال، علَّ ذلك يخفف وطأة الحزن.
ما «الأمر الرئيس» الذي بقي معلقاً؟ ما بصيص النور الذي لا يراه سوانا؟ أعتقد أنها «المهمة» غير المتحققة. لقد ورث جيلنا سعي آبائه إلى النهوض وتحقيق الذات، فكانت انكسارات تليها أخرى، من 1948 (وهي ليســـت حدثاً فلسطينياً فحسب)، إلى 1967 المزلزلة. جـــيل آبائنا كما جيلنا – هناك اســـتمرارية هنا – قرأ الأفغاني وعبده، ثم النـــظريات الماركسية، والبنا وعفلق والبيطار، ثم العروي والجابري… سعيـــتُ في أواخر الثمانينات إلى تدريســـها لطلابي في الجامعة، فكنتُ كمن يروي لهم الفلـــسفة اليونانية، كمن يتكلم عن عصر سحيق في القدم. كانت الحرب الأهلية تهم بالتوقف، وكانت همومهم في مكان آخر تماماً. ولا يمكنني الكلام عن مرجعيات لهم وقتها، فقد كان يســـود اضطراب عظيم، كما أن مهمة التدريس الجامعي كانت تتضمن محواً للأمية بالمعنى الحصري للكلمة… ثم عمت الطائفية، والسلفية الجهادية البدائية، وغياب التســـييس، وتشريع وتعميم الفساد كحالة طبيعية، وكل ما نعرف. حين حللنا إثر آبائنا في التصدي للمهمة، عميناها بعد رمد! على رغم أننا كنا نظن أننا مسلحون بوعي كامل بما جرى معهم، وبتحرر من القوالب الجامدة والتحليل الخشبي، وبصدق وعناد واستعداد للعطاء حد التضحية بالذات. وكل ذلك صحيح. لعلنا فشلنا إذ بالغنا في افتراض أنفسنا مخلِّصين، في استعجال انجاز «المهمة» قفزاً فوق كل المعوقات… لعلنا أهملنا مفصلاً قد يكون المفصل: لم نبن لمن سيأتي وراءنا، لم نترك له وثائق التجربة وآراءنا، ما يقال له «فعل النقل»… كأن لا وراءنا أحد! قمنا بالكثير بأنفسنا، وإنما ليس بهذه، كأن ما زال في الوقت متسع… كأننا ما زلنا شباباً!
الحياة