الجريمة والعقاب في عالمي المال والسياسة
علي محمد فخرو
لو كان حقل السياسة يتأثر بما يطرحه الأدب لما شاهدنا الفضيحة التي أمامنا. لنأخذ كمثال ما طرحه الكاتب الروسي ديستوفسكي في قصته الكلاسيكية: “الجريمة والعقاب” إن بطل القصة لا يستطيع العيش مع ما فعله من ارتكاب جريمة قتل بعد أن حاول بشتى الطرق تبرير ارتكابه لتلك الجريمة، تارة بادعائه بأنه هو الذي يجب أن يضع لنفسه القيم الأخلاقية التي تحكم حياته، وتارة باحتقاره للضحية وأنها ليست أكثر من دودة قذرة تستحق الموت وهكذا ينتهي البطل بفقدان أعصابه وتوازنه الداخلي وعيشه في ألم لا يطاق، مما يدفعه للاعتراف بارتكاب الجريمة، الأمر الذي يؤدي الى إنزال العقوبة عليه ونفيه الى سجون أصقاع سيبيريا. وعند ذاك ينتقل البطل الى جحيم الندم وما يترتب عليه، وينتقل الكاتب الى طرح السؤال الكبير: هل تستطيع مثل هذه الشخصيات أن تجدّد إنسانيتها وتستعيد عافيتها الأخلاقية؟
قضية الجريمة والعقاب مبثوثة في كل آداب العالم ومعالجة بعمق، لكنها ليست مطروحة بنفس مستوى الحدّة الأخلاقية في حقول السياسة والمال. وكتاب “الأمير” للسياسي الإيطالي الشهير ماكيافيلي شاهد على محاولة الفصل بين السياسة والأخلاق.
مناسبة طرح هذا الموضوع المعقد هو الهدوء العجيب المريب في ساحة العقاب بعد انكشاف جرائم السرقات والنهب والدّوس على قيم الانضباط والمسؤولية في حقلي المال والاستثمار. كأن السقوط المذهل لمؤسسات المال والاستثمار قد تمّ من دون فعل فاعل، وكأن الملايين من الضحايا ممن خسروا بيوتهم أو أصبحوا مديونين الى الأبد أو فقدوا وظائفهم لم يكونوا ضحايا جرائم وإنما كانوا ضحايا تمثيل مسرحي عبثي.
كيف يستطيع سارق خمسين بليون دولار بطرق الاحتيال والنصب أن يبقى طليقاً حتى الآن؟ كيف يستطيع مدير بنك انهار، وأنقذته أموال دافعي الضرائب، أن يتقاعد من ذلك البنك ويحصل على راتب تقاعدي بمقدار مليون دولار سنوياً ومدى العمر؟ كيف أفلت من العقاب آلاف المسؤولين عن استثمارات تضاربية مجنونة أودت بثروات الملايين؟ تلك أسئلة تطرحها جدلية الجريمة والعقاب. ذلك أنه لا القضاء استطاع أن يعاقب ولا السراق دخلوا في جحيم تأنيب الضمير والشكوك التي دخل فيها بطل رواية “الجريمة والعقاب”، والذي انتصر هو منطق الماكيفيلية الانتهازية التي استطاعت أن تبرز ما حدث من إجرام، لا للمجرمين فقط، وإنما أيضاً للضحايا وللقائمين على العدالة. ويظهر أن فريدريك شيلر كان محقاً عندما قال إنه جريمة أن تسرق محفظة يد، وشجاعة أن تسرق ثروة، ودلالة عظمة أن تسرق تاج ملك. إن اللوم يتضاءل وينقص كلما كانت الجريمة أكبر. ومن قبل وصف الفيلسوف اليوناني أرسطو وضعنا الحالي جيداً عندما أكد أن أكبر الجرائم لا تتم بدافع الحاجة. ومن المؤكد أن سراق البنوك ومحافظ الاستثمار لم يفعلوا ما فعلوه لأنهم كانوا جياعاً أو عراة.
ولا يقتصر الأمر نفسه على حقل المال والاقتصاد وإنما يتضح بصورة في عالم السياسة. لقد ساهم الرئيس الأمريكي السابق ورئيس وزراء بريطانيا السابق في ارتكاب جرائم العصر في العراق وفي سجون العار عبر الكرة الأرضية، ومع ذلك فلا العالم سيحاسبهما، بل العكس سيكرمهما مثلما كرّم توني بلير ورفعه، ولا هما سيرف لهما جفن أو يصابا بالحمى والحزن والسهر التي أصيب بها بطل ديستوفسكي.
وهكذا فإن عصر العولمة وابنته الرأسمالية المتوحشة القبيحة والليبراليين الجدد الذين يبررون ما جرى ولا يخافون مما سيجري، بل وسيعاودون الرجوع الى مسرح الجريمة وارتكاب المزيد من الجرائم، جميع هؤلاء يمدون ألسنتهم استهزاء واحتقاراً لديستوفسكي وأمثاله ممن توهموا أن بإمكان مجرمي البشر أن يتوبوا ويندموا ويتجددوا. لقد كتب ديستوفسكي كتابه التالي، “الأبله” كتكملة للكتاب “الجريمة والعقاب”، وذلك ليثبت بأن تجدد الإنسان ممكن. وما عرف ديستوفسكي أنه كان يكتب عنّا، نحن بلهاء هذا العصر، الذين يظهر أننا عصيون على أي تجدّد أخلاقي.
الخليج