صالح بشير: تصدّع المثقف النقدي أم “تصدّع المشرق العربي”؟
اعداد عبد الله امين الحلاق
لا تكاد ولو لمرة، تمر كلمة مثقف او مثقفين، أو نُخب ثقافية بالمعنى العام والمطاط للكلمة مرور الكرام، دون التعرض لها بكل ما يمليه الوعي الجمعي العربي المنفي خارج الثقافة الحقيقية، على يد استبداد سياسي أجهز على الثقافة والسياسة في آن واحد، وأرضية تاريخية لمجتمع عربي يملك وعيه المتفرد به عن العالم الخارجي، ومفهومه الخاص للكرم والشجاعة والجهاد وما شابه ذلك من مصطلحات قومجية وإسلاموية مدججة بمفردات الإيثار والإقدام المستلهمة جاهلية العرب وقبائلهم، وربما غزواتهم، دون أن تفكر باستحضار ما يفترض ان تستدعيه مفاهيم الشجاعة والجرأة في رسم ملامح الحرية والحداثة والتقدم المرتهن بالضرورة بتلك الحداثة .
قد يتلازم مع كلمة مثقف، كل فعلٍ للقراءة والكتابة والإنتاج الفكري، أو الخوض في سجالات فكرية ومعارك سياسية، بما تحتمله هذه الكلمة وتلك الشريحة التي ينتمي لها المثقف إما على الجانب الشخصي، أو الجماعي عبر العاملين في المجال الثقافي والفكري وبعض السياسي… من تعدد لتيارات وانتماءات، ولكن الموضوع كما هو معروف، يتعدى الشكل الذي يتصوره الوعي السائد عن مثقفين نقديين لا يتبدّون وفق ما يهيمن على الذهنية إلا مجموعة من المرضى النفسيين او المصابين بداء الشأن العام والاكتئاب معه، ما يستدعي علاجاً نفسياً سريعاً بجانبيه السلوكي والدوائي للسيطرة على هذيان الحرية وأحلام التغيير المراودة مخيلة المثقف الحقيقي النقدي الحالم بما تمليه عليه ثقافته النقدية، علاجاً نفسياً سريعاً وحاسماً في محاولة للعودة بهذا الفكر النقدي او حامليه إلى حظيرة النسق المتمترس وراء سواتر العائلة والمذهب والطائفة والشوفينية القومية، وحتى الإيديولوجيا ولو ادعت تقدميّةً ما، وكل ما لا يمت بصلة للفكر المتحرر من كل قيدٍ ، عنينا النسق الذي يقضي يومياته خارج دائرة التفكير، أي ضمن نطاق استقالة التفكير السليم وإحالة العقل العربي إلى المعاش .
• • •
عندما كتب غرامشي عن المثقف العضوي الملتزم، وصار توصيفه مثالاً لكل مثقف حقيقي ندعوه مثقفاً (بالمعنى الغرامشي للكلمة)، كان بذلك التوصيف أبعد ما يكون عن نمط من الثقافة ذات علاقة وثيقة بالسائد والسلطة المهيمنة، الثقافة التي عبّر عنها ميكيافيللي في “أميره”، والتي خاطب بها كل أمير او حاكم او خليفة او طاغية مستبد، موضحاً وشارحاً له ما يستوجب عليه فعله لدوام السيطرة على الحُكم والشعب، فلا عجب إذاً أن هتلر كان يقرأ يومياً بضع صفحات من “الأمير” قبل ان يخلد للنوم، او ان حكاماً عرب لم يقرأوه بالأصل طبقوا الوصفات المكيافيللية بحذافيرها ضمن حدود الممالك أو الإمارات او البلد (كي لا نقول الدولة) الذي حكموه بشكل كارثي.
كتاب “الأمير” يأخذنا إلى مثقف السلطة، وهو جانب من جوانب الثقافة لا علاقة له بالمثقف النقدي الذي تحدثنا بإيجاز عنه، وغير ذلك مما يحيلنا إلى الابتعاد عن التصور البسيط لكون الثقافة برجاً عاجياً، يقطنه مجموعة من حمَلة الأحلام الوردية بغدٍ أفضل لأوطانهم، ويلتزمون منهجاً وخطاً فكرياً وحياتياً يومياً معيناً، فمثقف السلطة بالمعنى المكيافيللي مثقفٍ دون أدنى شك، وكذلك منظرو الاستبداد والاستسلام لمنطق القوة والعسف الذي يحكم المجتمع والتاريخ والعالم، أضف إليهم دعاة الجهادية والسلفية من أناس لا يستهان بثقافتهم وقدرتهم على التأثير وغسل الأدمغة، ولو كانت ثقافة تدميرية، وهلم جرا… ألم يتحوّل القمع والعنف والموت في العالم العربي ثقافةً بحد ذاته ؟
• • •
لا أرى كتابةً عن المثقف النقدي والثقافة النقدية الحقيقية أجمل ولا أبهى من تلك التي خطّها قلم مفكر وأستاذ من الطراز الرفيع هو إدوارد سعيد، الذي صنف المثقفين العرب وغير العرب في كتاب يستلهم عنوانه من المضمون، عنيت كتابه الرائع “صور المثقف”، فهو بقدر ما يجتهد في توصيف العقل الحر والمنفتح، والمثقف البعيد عن السلطة والواقع المحيط والثقافة السائدة ولو بدت مهيمنة، بقدر ما تحدّث بإسهاب عن فئة من المثقفين وطباعهم الذهنية التي لا تستحق أكثر من التوبيخ لكونها تغري بتجنب المخاطر، أي ابتعاد فئة المثقفين هذه عن موقف صعب ومبدئي تدرك انه صحيح، لكنها تقرر ألا تأخذه .
كلام ادوارد سعيد يحمل معنىً عميقاً لعلاقة السائد والخوف من قول المسكوت عنه بالمثقف والوسط السياسي والاجتماعي الذي يعيش فيه. عندها يتحول الفكر كما وصفه مهدي عامل، وهو أحد رموز وأقطاب الفكر النقدي في العالم العربي بقوله : “إما أن يكون الفكر نقدياً، وإما ان يكون مخصيّاً، وهو المخصيّ إذا استمد سلطته من سلطة الدولة، إذّاك يتمأسس، فيستحيل فكراً بيروقراطياً، وما هذا الفكر بفكر، إنه خادم السلطان وخائن نفسه، إنه المرتد بامتياز” .
صورة المثقف الحقيقي يفترض ان تكون واضحة في كلام إدوارد سعيد ومهدي عامل، تنطلق من نقدهما، كل على حدة ووفق منهجه في الكتابة والبحث، لكل ما يعوّق الفكر الحر ويهبط به إلى مستويين لا يقل احدهما انحطاطاً ودونيّة عن الأخر . الأول يكون عبر العلاقة بين الثقافة والسلطة، او المثقف الأخيرة، فيما يكمن الثاني بالانزلاق في اعتبارات سياسية يومية محضة تلقي بالمثقف الحقيقي في هاوية الاستهلاك والتبسيط. ويسقط من جهة ثانية في اعتبارات الثقافة النظرية الصرفة التي تطلّق السياسة فتكبح عجلة الثقافي والسياسي معاً .
المثقف النقدي الحقيقي هو ذلك المثقف الذي ولو بدت أفكاره غريبة وخارج نطاق المألوف والمتعارف عليه في ذهنية عربية قروسطوية او ماقبلها، ذهنية مستهجِنةً لكل شيء مستوجبةً كيل الاتهامات شرقاً وغرباً، فإن الواجب الأخلاقي يحتّم عليه أن يعكّر استفزازياً، بحسب ادوارد سعيد، سكون التقاليد الآمنة في علياء حرمتها. أن يحُرج ويناقض ويكدّر الصفو العام. بعيداً عن أمجاد ثقافة وانتصارات تاريخ لا تستحق طاقة ذلك المثقف .
• • •
بعد انتهائي من كتابة هذه السطور، جاءني احد الأصدقاء بنبأ رحيل الكاتب والمفكر التونسي صالح بشير بسكتة قلبية، نعم .. صالح بشير الذي رحل كآخرين مثله تركوا فراغاً لن يملأه إلا مثقفون نقديون حقيقيون كحال ذلك الراحل، وهو إذ يتقاطع فكرياً كما أظن مع معظم أفكار هذا المقال، فإن بعض تلك الأفكار تبدو كأنها كتبت خصيصاً للحديث عنه قبل وفاته، خاصة عندما تعرّضتُ بها للحديث عن السائد والمألوف الذي كان مفكرون كثر قد كتبوا عنه وشرّحوه ونقدوه دون مهادنة او ديبلوماسية، تتحول جبناً وسكوتاً، او تزييفٍ للحقيقة ونقلها ووصفها بما ليس فيها، أما ما يتبدّى من “تجرّؤ على السائد والمألوف” فإنه يحضر في ما اعتاده القارئ المتابع لملحق “تيارات” والمقال الأسبوعي فيه لصالح بشير صباح كل يوم أحد… وهو الملحق الصادر مع صحيفة “الحياة” اللندنية والذي صار واحةً فكرية خصبة حفلت أقلام عربية تؤمن إيماناً عميقاً بوجوب نقد السائد والمألوف والكلاسيكي والمتعارف عليه في الفكر العربي وفي كتابه الممتاز والجريء مع المفكر والكاتب اللبناني حازم صاغيّة، أعني كتاب “تصدّع المشرق العربي” الصادر عن دار رياض الريّس، والذي يمثل بكل وضوح قيم المثقف الملتزم ما يمليه عليه فكره وأخلاقيته في قول ما يتجاذبه من هواجس وأفكار ولو بدت خارج دائرة المقبول والمتعارف عليه، وذات تماس مع خط احمر عند النخب والقاع، السلطة والشعوب، عنيتُ القضية الفلسطينية التي قدّم صالح بشير وحازم صاغيّة رؤية في غاية الجرأة والدقة والعمق لمستقبلها، وذهبا معاً في كتابةٍ بعيدة عن كل تبسيطية تلقي بدعاة الديمقراطية واللبرلة في خانة العمالة للغرب ( والامبريالية ) والصهيونية وغير ذلك من سلسلة كلمات تدور في خانة الفكر المؤامراتي الذي امتلأت بمفرداته قواميس السياسة العربية، كما كتبا نصوصاً متوازنة عن علاقة العرب مع الحداثة الغربية بشكل يبعد أي احتمال لنسخ التجارب الغربية حرفياً، او أي مقاطعة لتلك التجارب وعدم الانفتاح عليها .
كل هذا، إن دل على شيء، فعلى ان التصدّع اللاحق بالعالم العربي منذ عقود كثيرة، مشرقه ومغربه، جرّاء مفاهيم تجاوزها عالم متمدن يواجهه عرب اليوم بجهادية الموت والعبوات والسيف الذي أثبت عرب القرن الحادي والعشرون أنه أصدق أنباءً من الكتبِ، سيتحول انهياراً كارثياً بدأت أولى حلقاته منذ سنوات، فيما يشير كل ما يجري في العراق وفلسطين الى ان مسلسل الموت والعنف والخراب سيستمر إلى ما لا يبدو من نهاية قريبة له.