الأزمة المالية… تهديد للوحدة الأوروبية
ويليام دروزكياك
عندما وصلت إلى مدينة بروكسل للمرة الأولى للعب مباراة كرة سلة للمحترفين عام 1971، كانت المدينة مفعمة بالأمل أن الولايات المتحدة الأوروبية، سوف تصبح عما قريب حقيقة واقعة. في ذلك الوقت كانت بريطانيا، وإيرلندا، والدنمارك تتأهب لدخول السوق المشتركة، كما كان الطموح يراود “نادي الأمم التسعة” في التحول لقوة عالمية مهيمنة. ولكن ما حدث هو أن هذا الحلم قد تبخر كسراب صحراوي عندما فُرض حظر على تصدير النفط العربي عام 1973.فحينها سارت كل دولة من دول القارة في طريق منفصل في محاولة منها لمواجهة آثار الركود الذي كان يمكن أن تتعرض له اقتصاداتها بسبب هذا الحظر.
بعد ذلك بعقدين تقريباً، هرعت إلى برلين للعمل كمراسل للشؤون الخارجية لـ” واشنطن بوست” ولمتابعة تداعيات سقوط حائط برلين. ومرة أخرى احتلت الرؤية السحرية لأوروبا واحدة، وموحدة، وحرة، أذهان الناس في شرق أوروبا وغربها. في ذلك الوقت تدفق الألمان الشرقيون على المحل التجاري المشهور”كا دا وي” الواقع في شارع “كورفورستندام” في ألمانيا الغربية، والذي كان قادتهم الشيوعيون قبل انهيار الحائط يسخرون منه ويصفونه بأنه واجهة زائفة للرأسمالية. وعندما شاهدت حشود الألمان الشرقيين، وهم يحتشدون أمام أقسام الفواكه التي كانت ممتلئة بأكوام البرتقال والبرقوق والموز وما لذ وطاب من أصناف الفاكهة، فإنني أدركت حينها أن شعورهم بالتعرض للخيانة لعشرات السنين قد غطى على شعورهم بسقوط الإمبراطورية السوفييتية.
والشوق للمشاركة في ثقافة الغرب القائمة على الحرية والرخاء، كان هو القوة المحركة لاستراتيجية الاتحاد الأوروبي على مدى العشرين عاماً الماضية، والتي كانت تقوم على”تعميق الاتحاد وتوسيعه” واحتضان الديمقراطيات الجديدة في الشرق، مع إجبار الدول الأعضاء على تبني سياسات مشتركة مثل سياسة تبني اليورو كعملة تستخدم في الوقت الراهن في 16 دولة من دول القارة.
ولكن الذي حدث هو أننا انتبهنا فجأة إلى أن كافة المكاسب التي تحققت خلال العقود الماضية أصبحت مهددة بالانفجار من داخلها في أي لحظة، بعد أن أدى الانكشاف الاقتصادي الحالي لأوروبا الشرقية بسبب الأزمة المالية الحالية، إلى إثارة احتمالات حدوث انقسام جديد بين الشرق والغرب خصوصاً على ضوء تنامي مشاعر العداء والنعرات القومية التي أدت إلى كوارث الماضي.
وقد حذر المراقبون بالفعل من احتمال أن يكرر التاريخ نفسه بنفس الصورة التي حدثت في الماضي. فكما أدى “الكساد العظيم” في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى تدشين عهد من التطرف السياسي، أدى في خاتمة المطاف إلى صعود الديكتاتوريات الشيوعية والفاشية، فإن الموجة الحالية من الاضظرابات السياسية يمكن أن تغذي ذلك النوع من الديماغوجية السياسية التي يمكن أن تمزق القضية النبيلة لتوحيد أوروبا.
في لقاء أجري معه مؤخرا قال”روبرت زوليك” رئيس البنك الدولي الذي شارك عن قرب في المفاوضات، التي أدت إلى توحيد الألمانيتين عام 1990:” لقد مضى ما يقرب من عشرين عاماً على توحيد أوروبا وسوف يكون أمرا مأساويا للغاية إذا ما انقسمت مجددا”.
ومن المعروف أن الدول الشيوعية السابقة قد تمتعت خلال العقدين الماضيين بنوع من الازدهار الاقتصادي، كما انضم معظمها إلى الاتحاد الأوروبي و”الناتو”.
ولكن، الأمور لم تسر على هذا النحو طويلاً حيث بدأت دول مثل بولندا، والمجر، ولاتفيا، وبلغاريا، ورومانيا تترنح تحت تأثير أزمة ائتمان، أدت إلى هبوط معدلات النمو في تلك الدول، وكذلك عملاتها النقدية، وإلى تراكم ديون بلغت في مجملها 400 مليار دولار هذا العام، دون أن تتوافر لدى تلك الدول من الموارد ما يساعدها على سداد أقساط تلك الديون، وهو ما أثار قلق صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي اللذين أعلنا يوم الجمعة الماضي عن صفقة إنقاذ لتلك الدول قيمتها 31 مليار دولار.
في الوقت الحالي، تتعرض البنوك النمساوية وغيرها من البنوك الغربية، وكذلك شركات التأمين الدائنة لدول أوروبا الشرقية إلى ضغوط هائلة في أوطانها لسحب رؤوس أموالها من تلك الدول.( يشار هنا إلى أن ديون النمسا المقدمة إلى دول أوروبا الشرقية تصل في مجملها إلى 70 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي).
خلال الجولة التي قمت بها إلى أوروبا خلال الأسابيع الأخيرة، والتي أتيح لي خلالها مقابلة عدد كبير من الناس في باريس، وبروكسل، ودوسلدورف، وبرلين وبراغ، هالني حجم القلق الذي يشعر به مواطنو تلك البلدان من احتمال اقتراب العصر الذهبي الذي ساد فيه السلام والرخاء في أوروبا من نهايته، ومن احتمال تآكل شبكات الآمان الاجتماعي، وتقلص مسؤوليات الدولة المدنية. بيد أن أكثر ما أثار قلقي خلال هذه الجولة، هو ذلك الاحساس المتزايد بالتباعد بين هؤلاء الذين كانوا يملكون دوماً، وبين هؤلاء الذين لم يتح لهم الامتلاك سوى حديثاً.
ففي براغ على سبيل المثال، وجدت جيلاً -يتذكر بالكاد أيام القمع السوفييتي -يشعر الآن بالسخط نحو الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة، على الرغم من حقيقة أن ذلك الاتحاد كان سخياً للغاية في إغداق المساعدات على جمهورية التشيك بالذات. يتهم هذا الجيل الاتحاد الأوروبي بعدم الإنصاف والمساواة، لأنه يسمح لحكومات الدول الأوروبية الكبرى بفرض إرادتها على الدول الصغيرة الأعضاء في الاتحاد.
كما، أثار الرئيس التشيكي، “فاسلاف كلاوس” موجة من الغضب في البرلمان الأوروبي عندما قال في كلمة له في التاسع عشر من فبراير الماضي إن الاتحاد الأوروبي” مشروع غير ديمقراطي، ونخبوي يمكن مقارنته بالديكتاتوريات التي كانت قائمة في الحقبة السوفييتية”.
على الرغم من أن هناك من حاول التضخيم من حجم النقد الذي وجهه الرئيس التشيكي، فإن الذي غاب عن أذهان الكثيرين أنه ـ الرئيس- قد استمد رأيه هذا من نزعة الرفض السائدة حالياً في أوساط الأوروبيين الشرقيين، والذين تدفعهم إلى التساؤل عن المبرر الذي يدفع بلادهم بعد نضالها المرير من أجل الحصول على الاستقلال، إلى التنازل عنه من أجل السعي لتحقيق وحدة أوروبا.
والانقسامات الحديثة بين غرب أوروبا وشرقها تبدو في أجلى صورها في حالة روسيا التي شهدت صعوداً مستمراً في السنوات الأخيرة. فالغرب لديه الرغبة في مسايرة رغبة موسكو في استرداد وضعها السابق كقوة عظمى، والتعاون معها في مشاريع مد خطوط أنابيب النفط والغاز. ولكن دول أوروبا الشرقية تخشى أن يؤدي ذلك، إلى منح روسيا المزيد من النفوذ الذي قد يمكنها في النهاية من الهيمنة على إمدادات أوروبا بالطاقة، وهي مخاوف تأججت هذا الشتاء، عندما قطعت روسيا مؤقتاً إمدادات الغاز الطبيعي لأوكرانيا بسبب نزاع بين الدولتين على سياسات تسعير هذه المادة.
وكل ذلك يصيب صناع السياسات والمؤرخين في أوروبا على حد سواء بالخوف. ففي اجتماع عقد في الآونة الأخيرة في روما قال وزير المالية الألماني”بيير شتاينبروك” لزملائه الأوروبيين إن هناك خطراً أكبر مما يظن الكثيرون من إمكانية قيام أوروبا بتكرار الأخطاء التي وقعت في ثلاثينيات القرن الماضي وأدت إلى الكساد العظيم، وذلك عندما وقعت الحكومات الأوروبية ضحية لإغراء الخضوع للضغوط السياسية التي كان شعارها “افقر جارك”، وهو شعار أدى إلى ممارسات قادت في نهاية المطاف إلى تحويل الأزمة المالية التي حدثت في ذلك الوقت إلى “كساد عظيم”، ساعد على ظهور النازي، وغيره من القوى الفاشية الأوروبية، واستيلائها على السلطة، وإشعالها لشرارة نيران الحرب العالمية الثانية.
ولكن أوروبا، بعد انتهاء تلك الحرب، تحولت إلى قصة نجاح يدعو للإعجاب، أظهرت كيف أن الفوائد طويلة الأمد المترتبة على التعاون بين دول القارة، يمكن أن تفوق بكثير المصالح الوطنية الضيقة والقصيرة الأمد.
في الوقت الراهن، تتصاعد الضغوط الحمائية في كل مكان، ولكن الشيء المثير للقلق بشأن أوروبا على وجه الخصوص هي تلك الطريقة التي أصبحت بها الأزمة المالية العالمية الحالية متداخلة بشكل معقد مع المخاوف الشعبوية، التي تردد أصداء ماضي القارة المأساوي. لقد رأيت حلم أوروبا وهو يتبدد ذات مرة… وآمل ألا أراه يتفكك عما قريب مرة واحدة وللأبد.
ويليام دروزكياك
رئيس “المجلس الأميركي للشؤون الألمانية”
ينشر بترتيب خاص مع “لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست”
جريدة الاتحاد