صفحات أخرى

لمناسبة صدور كتابه: “الانتصار على هتلر” أبراهام بورغ يقول: يجب أن نتحرّر من ذكرى المحرقة كي لا نبقى أسرى الماضي

null

ترجمة بسّام حجّار

أبراهام بورغ (Avraham Burg) نجم الحياة السياسية الإسرائيلية، هو ابن يوسف بورغ ـ الشخصيّة التاريخية التي تولّت عدة مناصب وزارية ـ متديّن ويساري، عمل مستشاراً لشمعون بيريز عندما كان هذا الأخير رئيساً للوزراء؛ تولّى رئاسة “الوكالة اليهودية”،
وهي المنظمّة التي تتولّى تدبير العلاقات بين إسرائيل والشتات اليهودي. خاض معركةً ضدّ المصارف السويسريّة لاستعادة الممتلكات المسلوبة من اليهود. في قمّة مسيرته السياسية ترأس الكنيست، البرلمان الإسرائيلي، حيث حرص على إبراز دور نوّاب عرب إسرائيل. فيما مضى كان اسم والده يتردّد في أدبيّات السياسيين والباحثين والمعلّقين والدارسين العرب باعتبارِه صوتاً علمانياً معتدلاً، لا بل متقدماً، في وسط سياسيّ كان الحلم الصهيوني القديم لا يزال هو الغالب عليه.

بورغ اليوم في الثالثة والخمسين؛ إنّه “رجل أعمال” وكتابه الصادر حديثاً تحت عنوان “الإنتصار على هتلر” (منشورات فايار، باريس، للترجمة الفرنسيّة) يحدث صدماتٍ موجعة في أوساط إسرائيلية فكرية وسياسية وحتّى شعبية.

إنّه يتجرّأ على توجيه النقد اللاذع لأفكار مسبقة، راسخة، ومثيرة للجدل أصبحت مركوزة في طبع مواطنيه الإسرائيليين؛ وهي، برأيه، وبرأينا إذا جاز لنا القول، السبب في تحوّل إسرائيل إلى “غيتو صهيوني”؛ وهذا أثرٌ من هوس “المحرقة” واستغلالها لأغراض سياسية.

بورغ، في كتابه، لا ينعى الصهيونية بل ينعى أيضاً كلّ هَوَس إسرائيلي أو عربي إلى مُنازلةِ

طواحين الهواء.

لمناسبة صدور كتاب إبراهام بورغ بالفرنسية أجرت معه صحيفة “ليبراسيون” (في عددها المؤرّخ 5 ـ 6 نيسان 2008) الحوار التالي:

كتابك أثار ضجّة في بلدك لأنّك تتهم فيه إسرائيل بأنّها تبني هويّتها وسياستها على ذاكرة المحرقة

ـ بعد الحرب (العالمية الثانية) وطوال السنوات الأولى التي أعقبت قيام دولة إسرائيل، كان الصمت هو الغالب. فالمجتمع، على غرار الفرد الذي تلقّى صدمة عنيفة، يحتاج إلى الوقت لكي يعبّر عن نفسه. وإسرائيل هي تجمّع لأناس تلقّوا صدمة عنيفة. ومع الوقت غَرِقنا في الماضي لذلك نرى اليوم أنّ المجتمع الإسرائيلي موسوم بالمحرقة أكثر مما كان عليه قبل خمسين أو ستين سنة، بعيد تحرير معسكرات الاعتقال النازية. المحرقة هي جزء من يوميّات هواجسنا ومن نواة هويّتنا. وليس مستهجناً أن تشير نتائج استطلاع للرأي في إسرائيل إلى أنّ 90 في المئة من الإسرائيليين المستَطلعين يرون أن المحرقة هي الحدث الأبرز في تاريخ الشعب اليهودي، أي أنّها تتقدّم على التوراة وعلى قيام دولة إسرائيل على سبيل المثال… المدارس هنا تؤسّس لتربية كاملة انطلاقاً من تدريس المحرقة (مصحوباً بزيارات منظّمة للتلاميذ والشبّان إلى معسكرات الاعتقال السابقة في بولنده ). وكلّ زيارة لرئيس دولة إلى إسرائيل تتخلّلها، بالضرورة، زيارة إلى “ياد فاشيم”، النصب التذكاري للمحرقة. أعتقد أنّه في اليوم الذي لا تعود فيه المحرقة جزءاً من يوميّات هاجسنا، سوف نتمكّن أخيراً من الخروج من عصر الحداد، من عصر الغضب، لكي ندخل عصر الاستذكار والتفاؤل. لقد أردت التنديد بالطريقة التي تستغلّ بها السلطة السياسية مسألة المحرقة باستمرار بوصفها المرجع المطلق (لتاريخنا). فالمحرقة، برأينا، هي الحدث الجلل الذي لا يُقارن به أي حدث آخر. فما أهمية حاجز تفتيش يعرقل حياة الفلسطينيين قياساً بحجرات الغاز؟ وما أهمية عملية نوعية ضدّ “إرهابيين” أو قصف لغزّة قياساً بإبادة شعب؟ هكذا تُستخدم الفظاعة التي تعرّضنا لها لتسويغ أمور يصعب، لا بل يستحيل تسويغها في ظروف مغايرة.

تستخدم في كتابك عبارات شديدة القسوة، كعبارة “غيتو صهيوني”. لماذا؟

ـ المفارقة هي أن إسرائيل التي ينبغي أن تكون ملاذ اليهود أصبحت المكان الأشدّ خطراً عليهم. الجميع يعلم اليوم، عقب المحرقة وسنوات الهجرة، أنّ الغالبية العظمى من اليهود موزّعة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. والحال أنّ العلاقات بين اليهود ومحيطهم، في الغرب، تقوم اليوم على القبول والاندماج والتوازن والقدرة على التأثير. في حين أن العلاقات مع الآخرين في إسرائيل تبقى علاقات نزاع (بنسبة 51 في المئة بسبب أعدائنا ونسبة 49 في المئة بسبب أخطائنا). نجد أنفسنا في عزلة كما لو أننا داخل غيتو لم تُهدم أسواره إلاّ مرّتين أو ثلاث مرّات منذ نشأة الدولة قبل ستين عاماً. تشرين الثاني عام 1978 هو بالتأكيد العلامة الأهمّ في تاريخ إسرائيل، عندما زارها الرئيس أنور السادات. عقب ذلك جاءت اتفاقية السلام مع الأردن، ولحقبة قصيرة نسبياً فرحة اتفاقيات أوسلو. ما عدا لحظات التفاؤل تلك، عمدنا في الغالب إلى توسيع الهوة التي تفصلنا عن الآخرين. زِد على ذلك حقيقة أنّ الشرق الأوسط قد استخدم كمزبلةٍ لأوروبا: فعندما يقتل الفلسطينيون ضحية إسرائيلية أخرى تُضاف إلى ستّة ملايين ضحية هم ضحايا الهولوكوست (المحرقة) وإلى ألفي سنة من الاضطهاد والمجازر. وعندما نردّ بقتل واحد أو اثنين منهم، فهذه ضحايا تضاف إلى الاستعمار. لقد غادرت أوروبا الشرق الأوسط، غير أنّها خلّفت لنا كميراث الحرب المحرقة ضدّ الاستعمار. ما زال الإسرائيليون يعتقدون أنّ الفلسطينيين، شأن القوزاق أو النازيين فيما مضى، لا يضعون نصب أعينهم سوى قتل اليهود. لذا أودّ أن أقول لليهود إنّ ثمة فرقاً كبيراً بين الفلسطيني الذي يكافح لنيل دولته الخاصّة وبين النازيين الذي كانوا يقتلون اليهود باسم إيديولوجية عرقية.

نحن نواجه مشكلات سياسية وعسكرية وأمنية، غير أنّ هذه ليست المحرقة. وما يجري اليوم في الشرق الأوسط ليس معركة ألمانيا ضدّ اليهود.

هل تقارن إسرائيل اليوم بألمانيا هتلر، لكي تُحدث صدمةً في الوعي السائد؟

ـ كلاّ. هذه مقارنة مُرّة بالنسبة لي. طبعاً، هناك دائماً صعوبة في عقد المقارنة بين واقعين تاريخيين مختلفين؛ فالظروف ليست على الإطلاق هي نفسها. كانت جمهورية فايمار قبل هتلر جمهورية ديمقراطية مزدهرة، مثيرة للإعجاب، ثمّ انهارت بسبب صدمة الهزيمة وما تبعها من مهانة مقروناً بوضع داخلي متفجّر. إسرائيل تتمتّع هي أيضاً بحيوية لا توصَف، إنّها ديمقراطية وبلد للحريّات لا يُضاهى، ولكنّها في الوقت نفسه تشهد وضعاً سياسياً مشوّشاً وأليماً. أسمع اليوم في السجالات والنقاشات السياسية الدائرة أموراً لم أكن أتخيّل أنّها ممكنة في هذا البلد. مثلاً قول البعض: “ماذا سنفعل بالعرب؟” أو أسوأ من ذلك: “لنطرد العرب!” ومثل هذا يتردّد في حرم البرلمان نفسه! أمّا لجهة العلاقات مع ألمانيا، فالنسيان غير مسموح، ولكن من المحظور أيضاً أن نبقى أسرى الذاكرة. فعندما نتحرّر من المحرقة، وعندما نبني دولة إسرائيل الجديدة سوف يدرك الشعب اليهودي أنّه ينبغي تحرير ألمانيا التي هي مثلنا أسيرة الماضي. التحدّي الآخر في كتابي هو التشكيك باحتكارنا الصدمة (التاريخية) التي تجعلنا غير مبالين بعذابات الآخرين. فالشعار الذي ينبغي أن يُرفَع عَقِبَ المحرقة ليس شعار ” ألاّ تُعاد” على الشعب اليهودي فقط، بل “ألاّ تُعاد ” مطلقاً على أي شعب من شعوب العالم. غير أنّ هذا النمط من التفكير ما زال بعيداً كلّ البعد عن نمط التفكير الإسرائيلي.

على الرغم من كلّ شيء تبقى إسرائيل ديمقراطية غربية في الشرق الأوسط

ـ البعض يؤكّد أنّ على المقيمين في الشرق الأوسط أن يتصرّفوا كشرق أوسطيين. أمّا أنا فأعتقد أنّ تصرّفنا كأعدائنا هو بمثابة انتحار روحيّ لنا. إذ لا يُعقَل أن نعيش ألفي سنة وفق قيم معيّنة ثمّ نعمد إلى تغييرها. وعلى الأخص أن نعرّض نحن الآخرين لما أبغضنا التعرّض له طوال ألفي سنة. ببساطة نحن لا نستطيع أن نتصرّف، على الصعيدين العسكري والأمني، كما قد تتصرّف الأمم الأخرى. عبر “تبييض” الكلمات.

لذلك عندما يعمد جيشنا إلى قصف غزّة، نتحدّث عن “ضربات جراحية” بينما الأضرار الجانبية تسقط الضحايا. نستخدم عبارة “العمليات الجراحية” لكي لا نستخدم عبارات من قبيل “التصفية الجسدية” أو “الاغتيال”. قبل ستين عاماً أنشئت إسرائيل على مثالٍ أوروبي علماني ـ دولة ديمقراطية ذات توجّه تقدّمي. ولكن مع مرور الوقت وبسبب من واقعها ومن الهجرة والسياسة والإيديولوجيا، زال المِثالُ العلماني. فهل ستغدو إسرائيل ديمقراطية معتدلة شبه دينية أو دولة مسلمة حديثة؟ هل ستكون دولة على النمط الشرقي أو على النمط الأميركي؟ ينبغي إطلاق النقاش حول الهوية الإسرائيلية لكي لا نبقى شعباً على حدة، لكي لا نبقة “جماعة يهودية منعزلة” بل جماعة جامعة تشمل الجميع. كم أتمنّى أن تعود إسرائيل إلى مِثالها الأصيل، المِثال الأوروبي ـ وإن كنتُ لا أثق كثيراً بأنّ هذا المِثال ما زال قائماً، وخاصة عندما أشهد السجال الدائر في فرنسا حول العلمانية، وعندما أصغي إلى ما يصرّح به الفاتيكان. أرى العذاب كما أرى الأملَ أيضاً لأنّ ثمة ما لن يتخلّى عنه الإسرائيليون مهما جرى، وهو النظام الديمقراطي وتوافر الحريّات بأشكالها كافّة.

كان من المفترض أن يكون عنوان كتابك: “انتصار هتلر”. لِمَ قرّرتَ أخيراً تغيير العنوان؟

ـ لأجل أمّي. كان العنوان الذي اخترته في البداية استفزازياً غرضه إثارة العقول. هناك قسمان في الدماغ اليهودي، الأوّل مفرط في انفتاحه على الخارج، والثاني مفرط في انكفائه على دخيلته. الأول ذو نزعة جامعة، والثاني يميل إلى التمسّك بالخصوصية. منذ ستين عاما والميل إلى التمسّك بالخصوصية هو الغالب مع بلورة الأفكار المتعلّقة بالدولة والأرض، والهاجس المقيم بأن العالم أجمع يقف ضدّنا وأننا محاطون بالأعداء، أي هوية مبنية على مرتكزين: الله من جهة، ومن الجهة الأخرى المحرقة وجنون الارتياب حيال الآخر. وقد حان الوقت أن يغلب هذا الوجه الجامع لليهودية. أرى بعض مؤشرات هذه الغلبة في الفكر اليهودي الليبرالي في الغرب وفي الولايات المتحدة، ولكن أيضاً في إسرائيل نفسها. هناك انعطافٌ يرتسم في الأفق نحو نقطة توازن، في الأقلّ، بين هذين المكوّنين. في أوساط الشبيبة أو في أوساط الكتّاب، نشهد الكثير من التغيير، ونجد الكثيرين من هؤلاء يسعون إلى الانتقال من حال الصدمة إلى حال الثقة وتلك هي المسالك التي أحاول أن أتطرّق إليها في كتابي.. فكلّما اشتدّ قنوط الناس وتفاقم، انصرفوا إلى البحث عمّا يعيد الثقة إليهم. إنّي حالم مثالي. لقد نشأت الدولة على أساس قانون العودة الذي يعرّف اليهودي بأنّه كلّ مولود من أمّ يهودية أو متحوّل إلى اعتناق اليهودية لا يُمارس ديانة أخرى. إنّه تعريف النازية لليهودي بحسب قوانين نورمبرغ. فثمّة احتكار يمارسه الحاخامون على تحديد الهوية المدنية. أمّا أنا فأعتقد، على الضدّ من ذلك، بأن إسرائيل يجب أن تصبح بلد جميع يهودها وجميع مواطنيها على أن تحدّد غالبية هؤلاء طابعَها. فما بقيت قائمةً تلك الصلة بين الجنسية الإسرائيلية وقوانين نورمبرغ، سيبقى هتلر هو من يحدّد، وإن على نحو غير مباشر، من هو اليهودي ومن هو غير اليهودي. وبذلك يكون هتلر قد انتصر.

حالمٌ متفائل”، فكيف ترى المستقبل إذاً؟

ـ ما يُقلقني هو أنّ الصراع يتجاوزنا. فما دام هذا الصراع بيننا وبين الفلسطينيين يبقى كلّ شيء ممكناً أمّا إذا دخل دوّامة الصدام العالمي بين الحضارات فيغدو كلّ شيء مستحيلاً. برأيي العالم ليس منقسماً بين مسيحيين ومسلمين، بل بين مواطني حضارات ديمقراطية ومواطني حضارات تيوقراطية. الحوار ممكن بين بعضهم. وهم يتولون السلطة في فلسطين ومصر والأردن وحتّى ربّما في المملكة العربية السعودية. ثمّة فرص متاحة لم تكن موجودة قبل خمسين أو ستين عاماً؛ لقد تغيّرنا: هناك اليوم أغلبية من بين الإسرائيليين مستعدة للتخلّي عن المستوطنات. الأمر لن يكون يسيراً، لكنّ الوقت قد حان. كثيرون يقولون لي: في الحمض النووي الريبي (AND) اليهودي هناك عدد قليل من سنوات السيادة والاستقلال، وكثير من سنوات المنفى. ربّما لم يولد اليهود لتكون لهم دولة، مَن يدري… أنا شخصياً أرى أنّ وجود دولة إسرائيل هي فرصة رائعة لنا: حيث حقل الاختبار لحلم ألفي عام. وأحلامنا تعني العالم بأسره. هل لأحد أن يتخيّل عالماً من دون يهود؟ من دون يسوع المسيح ونشأة المسيحية، من دون سبينوزا؟ هل لأحد أن يتخيّل القرن العشرين من دون فرويد وأينشتاين، وغيرهما. طوال ألفي عام، أسهمنا، كأفراد وكثقافة، في الحضارة الجامعة. والتحدّي اليوم يكمن في أن نسهم في قيام دولة فلسطينية. منذ بعض السنوات والناس يعشقون الفكرة القائلة إنّ إسرائيل هي “دولة يهودية ديمقراطية”. فأجيب قائلاً: مهلاً أيّها الرفاق، هذا التعريف مُشكِلٌ في حدّ ذاتِه. أنا أتفهّم جيداً الأسباب التي تدفعكم إلى عشق هذا التعريف، وهذا على الأرجح لأنكم تدافعون عن اليهود، وتدافعون عن الديمقراطية. لا مشكلة في ذلك. ولكن لنفترض أننا قرّرنا ذات يوم أن نكفّ عن التقاتل. عندئذ سوف ينشب نزاع بين العنصر “اليهودي” ـ الديني في جوهره الذي يرى الله أصل الأشياء ومنبعها ـ وبين العنصر “الديمقراطي” ـ الذي لا يرى إلاّ عللاً بشرية للأشياء. فمن يقرّر عندئذ؟ الكنيسة أم الدولة؟ الحاخامون أم ممثلو الشعب؟ إنّ دولةً يهوديةً ديمقراطية هي تناقضٌ محضٌ لم ينفجر إلى اليوم بسبب الحرب. وما أن يحلّ السلام حتّى يتهاوى. فإذا ما قلنا إنّ إسرائيل هي، تلقائياً، دولة يهودية، فلسوف نضطرّ، عندما يصبح العرب هم الأكثرية بسبب نموّهم الديموغرافي، إلى تثبيت الطابع اليهودي للدولة بالقوة. لذا ينبغي لنا، نحن غالبية الناس المقيمين ههنا، أن نحدّد ما ستكون عليه هذه الدولة.

مع الفلسطينيين؟

ـ بعيد اتفاقيات أوسلو (في شهر أيلول 1993)، كان 80 في المئة من الفلسطينيين، و80 في المئة من الاسرائيليين، مؤيدين للسلام، على نحوٍ لم يتوقّعه أحد. غير أنّ هذا الاجماع سرعان ما تبدّد. أمرٌ ما في اتفاقيات أوسلو أفسدَ تطبيقها العملي، إذ كانت أشبه بالمقايضة العقارية: لك أنتَ هذا المنزل، ولي أنا هذا المنزل؛ لك هذا النهر ولي هذا النهر. غير أنّ الإسرائيليين لبثوا غير مبالين بالجرج الفلسطيني الغائر. إذ لم يقرّ القادة الإسرائيليون في يومٍ من الأيام بمسؤوليتنا عن أوضاع اللاجئين الفلسطينيين. علينا أن نعترف بجرحهم التاريخي عام 1948، وبنفيهم، كما عليهم أن يعترفوا بجرح محرقتنا.

هل فوجئت بحدّة السجال الذي أثاره كتابك؟

ـ كنت أعلم أنني في كتابي هذا أمسّ نواة الهوية الإسرائيلية كما هي اليوم. وكنت أعلم أنّه سيثير جدالاً حاداً لأنني في نظرهم أمثّل أيقونة من أيقونات “المؤسسة الرسمية” الاسرائيلية ـ فعلى الرغم من اعتزالي الحياة السياسية الجميع يعلم أنني عملت مستشاراً لشمعون بيريس حين كان رئيساً للوزراء، كما كنت نائباً في البرلمان، ورئيساً للجنة التربية في الكنيست، ورئيساً للوكالة اليهودية، ثمّ رئيساً للكنيست… ومع ذلك أجرؤ على المجاهرة بأسئلة يطرحها الكثير من الإسرائيليين في قرارة أنفسهم ولا يفصحون عنها. ليس مستهجناً إذاً أن يثير الكتاب مثل هذا الجدال المحتدم، خاصة أن حرية الرأي في إسرائيل لا قيود عليها. أذكر أن أحد المارة استوقفني وصاح بي مستنكراً: “لقد كتبت ضدّ ذكرى المحرقة!” فأجبته: “وأنت هل تكتب مع ذكرى المحرقة؟” لقد أخذ علي الإسرائيليون الذين تجاوزوا الخمسين من العمر، أو لنسمّهم “العماليين القدماء”، أولئك الذين بنوا الدولة، إقدامي على طرح أسئلة مماثلة. فيما يصرّ الأكثر شباباً منهم على أنني أطرح الأسئلة الصائبة حتّى لو كانوا لا يوافقون على أجوبتي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى