متى يصبح السوريون أولوية في السياسة السورية؟
زين الشامي
درجت العادة في الخطاب الإعلامي والسياسي السوري، وحتى الخطاب العقائدي لمجمل الأحزاب السورية بأطيافها كلها، أن تُعطى الأولوية للشأن السياسي الخارجي الإقليمي والدولي على حساب الشأن الداخلي. وهذه سمة رافقت الحياة العامة منذ الاستقلال حتى اليوم لدرجة أننا غالباً ما كنا نتندر، ومازلنا، على تلك الأخبار الآتية من أوروبا أو الولايات المتحدة وكندا، وحتى اليابان، التي تتحدث عن سقوط حكومات أو استقالة وزراء لأسباب «بسيطة وتافهة» تتعلق بالحياة اليومية، مثل ما حصل مع وزير المالية الياباني شويشي ناكاجاوا منذ أسابيع، والذي استقال من منصبه على خلفية فضيحة ترنحه مخموراً خلال اجتماع لمجموعة الدول الصناعية السبع، وكما حصل مع وزير الزراعة الياباني أيضاً الذي قدم استقالته في سبتمبر الماضي بعد فضيحة غذائية تتعلق بأرز ملوث كان يقدم إلى مرضى المستشفيات وأطفال المدارس، أيضاً كان لافتاً جداً ذلك المؤتمر الصحافي الذي عقده حاكم نيويورك إليوت سبيتزر في مارس من العام الماضي، حين اعلن استقالته في أعقاب تورطه في فضيحة أخلاقية، وقد أعلن سبيتزر استقالته بكل شجاعة وجرأة في مؤتمر صحافي، بينما وقفت زوجته إلى جواره؟
أيضاً، يخطئ من يعتقد أن أخطاء السياسة الخارجية في العراق أو افغانستان أو الشرق الأوسط عموماً، التي انتهجها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، هي وحدها من شكلت دافعاً لخسارة «الجمهوريين» في الانتخابات الرئاسية التي وصل بموجبها المرشح «الديموقراطي» باراك أوباما إلى الحكم. إن أولوية الناخب الأميركي كانت أولوية داخلية، نقصد الأزمة الاقتصادية التي ارخت بظلها على الأميركيين قبل الانتخابات بنحو عام، ويعتقد المراقبون للشأن الأميركي أن ذلك وحده ما جعلهم يصوتون لأوباما.
في هذا السياق، أذكر حواراً جرى بيني وبين أحد الصحافيين الأميركيين في مدينة دمشق أخيراً، حيث كانت الانتخابات على أشدها حين قال: «صدقني ان المواطن الأميركي لا يصوت إلا إلى محفظته». وكان يقصد أن الناخبين سيصوتون لأوباما بسبب ما جرته عليهم تلك الأزمة الاقتصادية من كوارث مالية هددت رواتبهم وعملهم وبيوتهم ومستوى رفاهيتهم.
لكن، ومن جانب آخر، وفيما لو نظرنا إلى خطابنا الرسمي والإعلامي، سنجد أن الشأن الداخلي يحتل مرتبة ثانوية جداً في أولويات مسؤولينا وحكومتنا، فدائماً ومنذ نعومة أظفارنا وحتى اليوم، كانت تبدأ نشرات الأخبار بالاستقبالات السياسية وكلمات النظام عن الوضع السياسي الإقليمي، وبعدها يتم تناول الشأن الإقليمي، سواء ما تعلق منه بالقضية الفلسطينية أو العراق أو لبنان أو السودان ودارفور، ثم تختتم تلك النشرات بأخبار متفرقة من هنا وهناك.
أما فهمنا للشأن الداخلي، أو بالأحرى ثقافتنا ومعرفتنا عن حياتنا وما يجب أن تفعله الحكومة إزاءنا، فلم يتعدَ تلك الأخبار القصيرة التي تتعلق بافتتاح مدرسة أو شق شارع أو بئر ارتوازية في قرية بعيدة، أو مسيرة «شعبية حاشدة»، لكن حتى مثل هذه الأخبار «التافهة» غالباً ما كان القائمون على الخطاب الإعلامي يعطونها جرعة من الشحن العقائدي، فتتحول المدرسة الجديدة أو الشارع الصغير أو البئر والصنبور اللذان تتدفق منهما المياه إلى منجز من «منجزات الثورة وهدية ومكرمة من القيادة الحكيمة للدولة والحزب القائد».
إن ذلك مازال يحدث في سورية بشكل أو بآخر، رغم أنه ومنذ زمن بعيد توقفت تلك الأخبار التي تتحدث عن افتتاح المدارس وشق الطرق ووضع حجر الأساس للمشاريع التنموية، لمصلحة أخبار تتعلق بالمؤتمرات والندوات والاجتماعات والمهرجانات التي تُعقد على مدار العام.
إن هذا التغييب للحياة اليومية للناس، الحياة التي تتعلق باحتياجاتهم الحقيقة، وهذه للأسف، ظاهرة عربية أيضاً، يعكس غياب الثقافة التي تمجد الإنسان – الفرد وتعطي قيمة للحياة الفردية والشخصية، وهذا بدوره يعكس غياب ثقافة ومفاهيم الحريات والحقوق والمجتمع المدني، ومع هذا الغياب أو التغييب، إن صح التعبير، يتحوّل الناس جميعاً إلى مجرد كتلة بشرية متلقية للخطاب السياسي والإعلامي والعقائدي، ومستقبلة بإذعان وسلبية لما يأتيها من فوق، وأيضاً هذا يعكس غياب الحياة السياسية في البلاد، وهي حياة مختزلة ومحتكرة من قبل «الحزب القائد للدولة والمجتمع».
إن من يستعيد خطابات الرئيس الأميركي باراك أوباما، فقط تلك الخطابات والكلمات التي بدأها منذ وصوله إلى البيت الأبيض، سيكتشف بسهولة، كم يستحوذ الشأن الداخلي وحياة المواطنين الأميركيين وأوضاعهم اليومية على القسم الأكبر من اهتماماته. وهذا طبيعي في بلد ديموقراطي، يرى فيه المسؤول أو الحاكم نفسه مسؤولاً «أمام رعيته» لا مسؤولاً عليها، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في الدول الديموقراطية كلها التي تحترم حقوق الإنسان، والتي وصلت الحكومات فيها إلى السلطة عن طريق انتخابات حرة وشفافة قال فيها الشعب كلمته. لذلك يسعى الجميع، من حكام ومسؤولين ووزراء، إلى العمل ليلاً ونهاراً على تقديم ما بوسعهم للناس الذين اختاروهم، اما السياسة الخارجية، كعملية السلام في الشرق الأوسط، واما الأزمة بين الكوريتين، واما الحرب على الإرهاب، فهذه مجرد تفاصيل في الشأن السياسي، ولها اختصاصيوها ومتابعوها وخبراؤها.
المواطن وشؤونه وأوجاعه في بلدنا، للأسف، لم يرتقوا بعد ليصبحوا همّاً وقضية للمسؤول، وذلك لأسباب عدة، من بينها أن المواطن مجرد تفصيل بسيط، والناس مجرد كتلة وحشد. إن الأولية عند المسؤول في بلادنا كانت وستبقى دائماً «القضية الفلسطينية» و«مواجهة الصهيونية» و«المخططات الأميركية المشبوهة»، إضافة إلى «تمتين التضامن العربي» واستمرار ومتابعة علاقات «الصداقة والتعاون مع إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا». وأخيراً «التصدي لمحاولات تسييس المحكمة الدولية»، حفاظاً على الاستقرار الإقليمي.
إن مثل هذا التغييب والغياب لحياة المواطنين من على قائمة اهتمام «الحزب القائد» والمسؤولين في سورية، هو ما يجعلنا نفهم سر الأرتال الطويلة على أبواب سفارات الدول الغربية و«الإمبريالية» والاستعمارية… إنه التوق الإنساني الطبيعي والقديم للإحساس بالكرامة والهوية.
كاتب سوري
الراي العام
كل ما ذكره الكاتب صحيح وهو جوهر المشكلة لكن اضيف لقد غاب عن زهن القادة ان نجاح السياسة الخارجية هو بنجاح السياسة الداخلية