الأزمة المالية العالمية

‘الطريق الثالث’ بديل الأصولية الليبرالية

هاني الحوراني
هناك ما يشبه الإجماع بأن الأزمة المالية والائتمانية العالمية التي ضربت أولاً وول ستريت، أو شارع المال في نيويورك، ثم امتدت إلى بنوك ومؤسسات الاستثمار في أوروبا واليابان، وأطاحت بأسعار الأسهم في مختلف بورصات العالم، قد شكلت علامة فاصلة في النظام الاقتصادي والمالي العالمي، كما عرفناه منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الأشهر القليلة الماضية. وعليه، فإن هذا النظام لن يكون مستقبلاً هو نفسه الذي كشف عن عجزه الفاضح وثغراته الكبرى في التعامل مع أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، ثم مع الأزمة الائتمانية التي أطاحت بالشركات الامريكية العملاقة التي تأسس بعضها قبل مائة عام أو أكثر. تلك الأزمة التي أجبرت حكومة الولايات المتحدة، وبعدها حكومات أوروبا واليابان وروسيا والصين والخليج العربي في التدخل من أجل وقف انهيارات أسعار الأسهم، واعتماد خطط إنقاذ استثنائية تعتمد على تمويل الموازنات الحكومية.
لقد كان من تداعيات هذه الأزمة، ليس فقط دخول اقتصاديات البلدان الصناعية المتقدمة في نفق مظلم لا يُرى في نهايته أفق الخروج من هذه الأزمة، وإنما وقوع زلزال فكري أطاح باليقينات الصارمة التي سادت الفكر الاقتصادي خلال ربع قرن سبق، وأبرزها البدهيات التي ارتبطت بالليبرالية الجديدة، التي روجت طويلاً بل قررت لعدة عقود اطلاق حرية السوق على أعنتها، ودعت إلى تقليص، (لا بل وإنهاء) كل أشكال التدخل الحكومي لتصحيح آليات السوق، انطلاقاً من الاعتقاد الوثني بأن السوق تصحح ذاتها تلقائياً من دون حاجة إلى تدخل من أحد. ومن غرائب الأمور أن من نعى النظام الاقتصادي والمالي الدولي الرأسمالي، ليس فقط دعاة الاشتراكية والتدخلية، وإنما أساساً أركان ورموز النظام الرأسمالي العالمي، ومن بينهم رؤساء دول وحكومات ووزراء مال.
أدت هذه الأزمة فيما أدت اليه إلى البحث عن بدائل أو مقاربات جديدة لتحل محل الليبرالية المتطرفة، وفي هذا الإطار انبعث الاهتمام ‘بالطريق الثالث’ التي كانت قد وجدت لها رواجاً واسعاً حين أطلقت في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي ومطلع العقد الحالي، باعتبارها البديل الشرعي لكل من الرأسمالية والاشتراكية، واعتُبرت ‘البرنامج السياسي للمجتمع المعلوماتي’ أو ‘لعالم القرن الواحد والعشرين’. ولذلك كان من الملفت أن يحظى ‘الطريق الثالث’ بشعبية ورواج جديدين بُعيد انفجار الأزمة المالية الائتمانية الأخيرة، ليس فقط في العالم المتقدم، وإنما أيضاً في عالم الجنوب النامي، ومنه البلدان العربية التي عانت بدورها من الثمار المرة للوصفات والتطبيقات المحلية المشتقة من منابع الليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة والغرب الصناعي.
الطريق الثالث
فهل يشكل الطريق الثالث البديل فعلاً لاقتصاد السوق الحرة وللفردانية المطلقة؟ وهل يعني الطريق الثالث الشيء ذاته لمختلف الداعين له، وكيف نفهم الطريق الثالث في السياق العربي؟
من المعروف ان محاولات صك نظرية أو فلسفة تمثل طريقاً ثالثة، قديمة في التاريخ البشري المعاصر. ويعتبر الانشقاق التاريخي في الحركة العمالية والاشتراكية ما بين دعاة ‘الاشتراكية القويمة’، التي تبنت الأسلوب الثوري للقضاء على الرأسمالية كنظام سياسي وبين التيار التصحيحي (التنقيحي)، أو كما وصفه التيار الماركسي ‘بالتحريفي’، الذي انتهج طريق الاصلاح وإحداث تغييرات وتحسينات ضمن النظام الرأسمالي. وقد استخدم دعاته في حينه الآليات البرلمانية والنضالات السياسية والمطلبية السلمية من أجل الوصول إلى الحكم، وإحداث تغييرات بنيوية وتشريعية لتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية. وهو ما تحقق إلى هذه الدرجة أو تلك من خلال توفير شبكة الخدمات والتأمينات الاجتماعية لتحقيق الرفاه.
إذن، فإن جذور دعاة ‘الطريق الثالث’ المعاصرين تعود إلى هذا التيار، أي تيار الاشتراكية الديمقراطية أو ‘الأممية الثانية’، التي شكلت بعد الحرب العالمية الأولى طريقاً ثالثاً ما بين أحزاب ‘الأممية الثالثة’ أو الاشتراكية السوفييتية (ثم شقيقاتها في أوروبا الشرقية والصين وألبانيا وكوريا الشمالية) وما بين الأحزاب الرأسمالية في أوروبا والولايات المتحدة.
على صعيد آخر نشطت محاولات لشق طريق ثالث في عالم الجنوب، في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، فكانت حركات وفلسفات كتلة ‘عدم الانحياز’ و’الحياد الايجابي’، نوعاً من التنظير لطريق ثالث ‘لا شرقية ولا غربية’، ما بين المعسكرين الرئيسيين اللذين تقاسما النفوذ والقوة في عالم ما بعد الحرب الثانية وحتى مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وتمثل اشتراكية جواهر آل نهرو وحزب المؤتمر في الهند، ومحاولات عبد الناصر وحزب البعث في الوطن العربي لصك نوع خاص من ‘الاشتراكية العربية’، ومثلها من محاولات آباء الاستقلال في افريقيا صياغة فلسفة ‘اشتراكية افريقية’، جزءاً من الميراث العالمي لتجارب الطريق الثالث. ويصف الزعيم معمر القذافي نظريته في ‘الكتاب الأخضر’ بأنها ‘النظرية العالمية الثالثة’، ويعتبر بعض دعاة ومنظري الاسلام السياسي المعاصرين أن الإسلام هو الطريق الثالث الحقيقي ما بين الرأسمالية والشيوعية.
غير ان ‘الطريق الثالث’ الذي يتناوله الحوار السياسي المعاصر، خصوصاً هذه الأيام، يشير إلى تلك الأطروحات والسياسات التي انبثقت من داخل الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، التي قصدت الرد على تحدي الليبرالية الجديدة وصعودها السريع والمتواصل في بريطانيا والولايات المتحدة وبلدان رأسمالية أخرى، منذ وصول كل من رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر والرئيس الامريكي رونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي إلى سدة الحكم، والتي اقترنت بسياسات خصخصة ممتلكات ومرافق الدولة، ونبذت مكتسبات مجتمع الرفاه والتكافل الاجتماعي وأطلقت العنان للحريات الاقتصادية.
ففي مواجهة الصعود الكاسح لليبرالية الجديدة وجدت الأحزاب العمالية والاشتراكية الأوروبية نفسها أمام تحديات جديدة، أبرزها صعود موجات عولمة الاقتصاد ووقوع تحولات اجتماعية جذرية جراء الثورة العلمية التقنية التي غيرت بنية الاقتصادات الغربية، وأعادت تشكيل قوة العمل فيها والقاعدة الاجتماعية لهذه الأحزاب، ما بات يتطلب قراءة جديدة للعالم المعاصر.
يعد أنطوني جدينز، عالم الاجتماع البريطاني، أول من كتب صراحة عن الحاجة إلى اجتراح طريق ثالث جديد يجيب عن التحديات المعاصرة، من وجهة نظر الأحزاب العمالية والاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، وذلك في كتاب له حمل ذات العنوان: ‘الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية الاجتماعية’. وقد شكلت كتابات جدينز ومنها كتابه هذا الذي لم يتجاوز مائة وستين صفحة، نقطة تحول فاصلة في بلورة هوية حزب العمال الجديد بزعامة حكومة طوني بلير التي أعادت حزب العمال للحكم بقوة في عام 1997، وكفلت له البقاء في السلطة حتى اليوم، أي ما يزيد على عشر سنوات حتى الآن.
لم تترك توليفة ‘الطريق الثالث’ تأثيرها العميق على الحوار السياسي البريطاني فقط، وإنما تعدته إلى الفضاء الأوروبي، وتحديداً إلى المانيا الاتحادية، حيث أعاد الحزب الاجتماعي الديمقراطي صياغة سياساته في ضوئها تحت قيادة غيرهارد شرودر. وقد استمدت التيارات الاجتماعية الديمقراطية الاوروبية مصادر التجديد هذه من تجربة الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة التي اكتسبت جاذبية خاصة مع وصول كلينتون إلى سدة الرئاسة فيها، وهو ما أخذه عليها منتقدو ‘الطريق الثالث’ باعتباره بضاعة أمريكية مستوردة لا تمت بصلة إلى ‘الحضارة السياسية الاوروبية’. لكن جدينز تتبع جذور الطريق الثالث في التاريخ الأوروبي المعاصر، ولا سيما في تجربة البلدان الاسكندنافية وأكد ان محاولات اجتراح بديل ثالث لم تتوقف طوال مسيرة الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية.
الاقتصاد المعولم
ترك كتاب الطريق الثالث والمؤلفات الأخرى لأنطوني جيدنز آثاراً غير قليلة على الجدال السياسي، في الأوساط الاشتراكية واليسارية في أرجاء العالم، خاصة في ضوء التغيرات العاصفة التي نجمت عن انهيار التجربة السوفييتية، وعن الظواهر الاقتصادية ـ الاجتماعية التي حملتها العولمة وثورة المعلوماتية وصعود ‘الاقتصاد الجديد’ في تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الجديد.
ومن ضمن هذه الآثار على عالمنا العربي، أن الترجمة العربية لكتاب جدينز تمت لأول مرة في الجماهيرية الليبية، عام 1999، ربما لاعتقاد الناشرين هناك، انها تنسجم مع ‘النظرية العالمية الثالثة’ التي صاغها معمر القذافي في كتابه الأخضر. وقد نشرت في العالم العربي العديد من المقالات التي ناقشت اطروحات ‘الطريق الثالث’، كما نظمت في الأردن ندوة بحثية خاصة حولها، بمشاركة باحثين ونشطاء يساريين من المانيا والعالم العربي عام 2001. ويعد السيد ياسين، عالم الاجتماع السياسي المصري أبرز الشارحيــــــن لأفكار الطــــريق الثالث، وقد نشر كتاباً له تحت عنوان ‘العـــولمة والطريق الثالث’، وألقى قبل سنوات محاضرة هامة في منتدى شومان، تحت عنوان ‘الطريق الثالث بين الاشتراكية والرأسمالية’.
لا يتسع المجال هنا لعرض منهجي لأطروحة الطريق الثالث، وهي على كل حال لا ترقى إلى مستوى النظرية أو الفلسفة المتكاملة، فهي في أحسن الأحوال محاولة ‘براغماتية’ لصياغة تفسير سياسي للتحولات العالمية، نجم عنها مراجعة جديدة لفلسفة الاشتراكية الديمقراطية، كما عرفتها اوروبا الغربية حتى ثمانينيات القرن العشرين.
يلخص المحلل السياسي الألماني ميخائيل إيركه خلفيات ومبررات انبعاث أفكار تيار الطريق الثالث بكونها محاولة لصياغة برنامج سياسي جديد للديمقراطية الاجتماعية الاوروبية، كاستجابة منها للتغيرات التي وقعت في العالم المعاصر، وأبرزها: العولمة التي باتت تسم الحقبة الراهنة وتضيق حدود المناورة أمام الحكومات أو الدول القومية، وهنا يقترح دعاة الطريق الثالث اتخاذ موقف ايجابي وتفاعلي مع العولمة. ومن هذه التغيرات أيضاً نشوء مجتمع المعلومات أو مجتمع المعرفة، الناجم عن تعاظم مدخلات تكنولوجيا المعلومات ومعالجتها في الاقتصادات المتقدمة، والتي جعلت منها معياراً للقيم السوقية للشركات أكثر من المعايير التقليدية التي كانت تقاس فيها قوة الشركات بأحجام رأس المال الثابت مثلاً أو أعداد العمالة المشغلة، وبالتالي تغير وزن وقيمة الفئات الفنية العاملة في الادارة والبحث والتطوير والاستشارات والتمويل والمعلومات والتسويق، على حساب العاملين مباشرة في التصنيع والخدمات والأعمال الروتينية.
لقد شدد دعاة الطريق الثالث على عودة أهمية المساهمين (shareholders) على حساب طبقة المديرين. وهذه الفكرة ناجمة عن إعطاء الأولوية المطلقة لتحقيق الأرباح وتعظيم الثروة، وكذلك ظهور ‘طبقة دنيا جديدة’ نتيجة الشروط الاقتصادية الجديدة التي باتت تفرز أعداداً أكبر من العاطلين عن العمل وفاقدي الوظائف، جراء الانتاجية العالية للصناعات التحويلية التي باتت أقل اعتماداً على العمل البشري وأقل توليداً لفرص عمل جديدة وقد أدى ذلك إلى فرز طبقي جديد، حيث يصعد فيه، اجتماعياً، أولئك الذين يتمتعون بالمعرفة ويهبط سواهم إلى القطاعات الأقل انتاجية والأقل دخلاً.
كذلك يتحدث دعاة الطريق الثالث عن ‘وفاق اقتصادي جديد’ يعطي الأولوية في السياسات الاقتصادية إلى تجنب التضخم النقدي وعدم رفع الضرائب والحد من مديونية الحكومات، بهدف تحقيق الاستقرار. ويعني هذا اعطاء أولوية أقل إلى دور الدولة في اعتماد سياسات لإعادة توزيع الدخل، وبالتالي تحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية. ويلحظ منظرو الطريق الثالث صعود ‘الفردانية’ في العالم المعاصر، التي تعلي شأن المبادرات الفردية وانحسار دور التقاليد أو تحللها. وبكلمات أخرى فإن الطريق الثالث باتت، على غرار الليبراليين الجدد، تعلي من شأن المسؤولية الفردية على حساب المعتقدات الاشتراكية، التي تولي أهمية أكبر للعوامل الاجتماعية والتضامن الاجتماعي.
ويعود هـــــذا إلى أن دعــــاة الطريق الثالث يرون أن مجتمع الحداثة وما بعدها، لم يعد قائماً على مفهوم التطابق ما بين الحالة الاجتماعية والميول السياسية، فليس كل عامل أو مستخدم هو تلقائياً جزءا من قاعدة اليسار، كما ان الميول السياسية للأفراد لم تعد تحددها الوضعية الاجتماعية وإنما عوامل أخرى، ذات طابع شخصي أكثر. ولذلك لم يعد دعاة الطريق الثالث ينظرون إلى الطبقة العاملة باعتبارها هي الحامل الاجتماعي لراية اليسار أو الديمقراطية الاشتراكية، وإنما باتوا يتطلعون إلى كسب المجتمع ككل.
طروحات ‘الطريق الثالث’ ألقت بحجر كبير في المياه الراكدة وأثارت ردود فعل واستجابات متباينة من قبل مختلف التيارات اليسارية المعاصرة، فقد رفضها يسار الاشتراكية الديمقراطية، والقوى اليسارية الراديكالية الأخرى، فيما أقبلت عليها وكيفت برامجها في ضوئها، أحزاب عديدة تنتمي ليسار الوسط في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا. لكن لهذا حديثا آخر.
كاتب أردني
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى