الأزمة المالية العالمية

أطياف ماركس

فالح عبد الجبار
يحوم شبح ماركس اليوم حول العالم الصناعي، وهو من قضى جل حياته الواعية في محاولة فهمه ونقده وتهديمه. ولعله يرى اليه ساخراً، ولربما شامتاً، وهو يتمرغ الآن في اقسى ازمة كونية الطابع. كما يحوم شبح آدم سميث حول هذا العالم نفسه الذي افرغ فيه عمل حياته في محاولة لفهمه وتبجيله وتوطيده، وهو يرى الى السوق المنفلت يعاقب جمهرة المودعين، كما يعاقب رجال الاعمال، الكفوئين والمتلاعبين سواء بسواء.
رغم بغضي لكلمة «الازمة»، لكثرة ما عهّرت، لا اجد خيراً منها لوصف الحال، ولكن بمعنى محدد هو وجود مشكلة عصيبة لم تتبلور سبل حلها بعد. أطياف ماركس واطياف آدم سميث تحوم ايضا في فضاء السجال.
اطياف الاول ترى الى سلسلة الازمات التي اندلعت منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي، في آسيا اولاً (اندونيسيا، ماليزيا، كوريا، الخ- دون تايوان مثلاً)، ثم في روسيا ثانياً، فأميركا اللاتينية ثالثاً، في تتابع متصل، برهاناً على وحشية السوق. وكانت السمة الغالبة في هذه الازمات اندلاعها، شأن الازمة الحالية في الولايات المتحدة، من اسواق المال: اسواق الاسهم، اسواق المضاربة (بالعملات وغيرها) شركات الرهون العقارية، المصارف… اي اندلاع الازمة ليس مما يعرف بالاقتصاد الحقيقي (الانتاج والتبادل) بل مما يعرف بالاقتصاد الوهمي، المعني بنقل القيم (اوراقا ورموزا) بين مختلف المالكين، دون انتاج الجديد منها.
كان ادم سميث يرى ان السوق عادل، قوانينه لا شخصية، فتقسيم العمل عنده قاطرة للتقدم (زيادة الانتاجية)، والسوق يكافئ المنتج الحصيف، ويعاقب السيء. وكان هذا العقاب والثواب اللاشخصي، عنده، يتعلق بالانتاج. لكن عدو الدولة التدخلية وحارس الحرية الفردية، سمح للدولة في نظريته الليبرالية، ان تقوم باعمال اقتصادية: بعض الاشغال العامة.
ماركس رأى في سوق سميث عللاً شتى قانونية، اجتماعية، واقتصادية. فهو خرق لقانون تبادل المتساويات (مع سلعة العمل) وانتاج للفقر وفيض العاطلين، واخيرا ثمة في الساحة الاقتصادية: فيض الانتاج (الاقتصاد الحقيقي)، وانفصال البيوع عن الشراءات (اسواق المال). عالج المعالجون فيض الانتاج باتلاف المنتوجات، اوخفض سقف الانتاج خلال فترات الكساد، اما اسواق المال فضربت ضربتها الكبرى في الكساد الكبير (عام 1929) الذي تلا ثورة اكتوبر، وسبق صعود النازية. وكان الحل في الحالتين تدخل كثيف للدولة اللاليبرالية (روسيا- المانيا) وتدخل لا يقل كثافة عنه في الدولة الليبرالية (الصفقة الجديدة للرئيس روزفلت- اميركا).
نظرية السوق المنقسمة، بين جنة التوازن عند سميث، وجحيم الاختلال عند ماركس، اعطت للممارسين في القرن العشرين كل الاسباب للسير في طريقين متعارضين: الدولة الكلية القدرة، الناظمة لاقتصاد الشحة، للسوق بلا سوق، اي الدولة الاشتراكية في ردائها الستاليني، والدولة الليبرالية التي تقف على ارض السوق الحر، المفتوح. خلال القرن العشرين القصير (1917-1991)، تبادل النظامان التأثير. خرجت علينا دولة الاصلاحات الاشتراكية من هنا، ودولة الرفاه من هنا. هذا التأثير المتبادل كان يمكن ان يستمر لولا سقوط  الجناح الاول، وترافقه مع نشؤ التيار الليبرالي الجديد (تاتشر وريغان) ليقود حركة الانقلاب على دولة الرفاه التي كانت نموذجاً غربيا شاملاً، وبات خطاب «الانتاجية» (خفض بعض اكلاف الانتاج: الاجور، التأمين، والضمان الاجتماعي للعاملين، الضرائب) اللغة السائدة.
واليوم، الليبرالية الجديدة التي احتفت بـ «نهاية التاريخ» في التسعينات، تجد نفسها مضطرة للبحث عن بدايات التاريخ النيوليبرالي: هل الازمة في اسواق المال، اي في الاقتصاد الوهمي، ام في الاقتصاد الحقيقي. وما حدود الحرية الممكنة في هذا القطاع، الذي يقوم بدور اساس في الاستثمارات الحقيقية، كما بدور أهم في المضاربات بالاسهم والعملات، والعقارات وبالقروض غير الحميدة.
هناك قدر كبير من الشماتة اليسارية بالازمة الليبرالية، رداً على الشماتة الليبرالية بانهيار المعسكر الاشتراكي والاحزاب الشيوعية. بعض الشماته يصل الى حد الاستيهام بامكان عودة حركات الطبقة العاملة او سقوط الحضارة الرأسمالية، دون تفكير بحقيقة ان الطبقة العاملة تقلصت في الغرب، ولم تنم في الشرق. وان القوى المجتمعية المتضررة من الازمة الحالية تكاد تنتمي الى الفئات الوسطى الحديثة، وتضم الملايين من المودعين، ومالكي المنازل (بالرهن العقاري)، ودافعي الضرائب عموما (ممن يرون اموالهم تهدر على انقاذ حيتان المضاربة)، بل حتى اصحاب ومدراء الاقتصاد الحقيقي، وكثرة من السياسيين. وعليه يبدو فضاء الاحتجاج شبه شامل، بل فريد. ولعل ذلك ينتهي الى ابطاء «الثورة النيوليبرالية» بقدر من الضوابط والنواظم اللاجمة.
قطعا ليس بوسع الليبراليين الجدد التبجح بعدالة السوق بالحميّة والحماسة السابقتين. فثمة وقائع صلدة تفيد ان بمقدور اسواق المال إيقاع الاضطراب في منظومة الاقتصاد العالمي كلها، وهي متشابكة: ازمة اسواق المال تضعف الميل الى الاقراض، وهذا يقلل من الميل الى الاستهلاك، والاثنان يؤديان لانكماش الاقتصاد الحقيقي (ربما وصولا للكساد)، وهذا بدوره يضعف اسواق المال. في هذه الحلقة المفرغة، التي تبدو جهنمية، ثمة ضغط المصالح المعاكسة المحفزة بالفزع من الانهيار، والضغط الاخلاقي المجتمعي، والضغط السياسي (الدولة)، مما يدفع باتجاه المزيد من الضبط والرقابة.
وهناك وسائل سياسية جديدة لذلك: الاتحاد الاوروبي، مجموعة الثمانية.
لقد سقطت او تهمشت مؤسسات الرقابة التي انشئت بعد الحرب العالمية الثانية (صندوق النقد، والبنك الدولي، اتفاقية بريتون وودز)، بينما يشعر المفكرون الاقتصاديون ان الحاجة الى مؤسسات بديلة تتنامى عاما بعد عام. وقد تكلف اطفاء الازمة الآسيوية عشرات الميليارات، كما تكلف اطفاء الازمة الروسية نحو خمسين مليارا، فيما كلفة الاطفاء في اميركا اللاتينية لا اقل من هاتين. وكان الاطفاء يسيرا لأن المراكز المقررة في الاقتصاد العالمي كانت معافاة. اما اليوم فالمركز الاكبر، الاقتصاد الاكبر، مصاب. فما ستكون عليه الصورة لو ان الاطراف كلها اصيبت مجددا بموازاة الازمة في المركز. على الارجح ستتضافر اطياف ماركس واطياف سميث للمزيد من لجم الرأسمال، لارغامه على الإمساك بغرائزه المنفلتة في الربح، واخضاع السوق لنوع من ضوابط وبرمجة، اي جعله كياناً مجتمعياً اكثر، وفردياً اقل. ولسوف يعود الليبراليون الى قراءة الاسطر الاخيرة من «ثروة الامم» ليجدوا فيها فتوى نظرية تبيح زيادة تدخل الدولة الليبرالية لقمع ليبرالية اسواقها قمعاً لطيفاً ولكنْ مفيداً.
لعل الازمة تحل سريعاً، او تدوم فترة اطول، لكن تفسيرها سيولد تمثلات متنوعة، متضاربة، غير انها ستعكس المحنة القديمة: الفرد ام الجماعة، حرية الاول ومصالحه، ام مصالح الثاني وحقوقه. الثابت ان المحنة باقية.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى